مقال من موقع صحيفة الحياة اللندنية
مواجع مصرية
محمود عوض الحياة - 23/04/06//
بين تطورات اقليمية ودولية عدة تتلاحق أخبارها في الصفحات الأولى ومقدمات نشرات الأخبار، توقفت ملياً عند خبر صغير في صحيفة مصرية متخصصة يتعلق بمصر. الخبر يقول في مقدمته: «اختتمت بعثة صندوق النقد الدولي مشاوراتها في القاهرة مع الحكومة المصرية، والتي تتعلق بمجموعة كبيرة من التطورات الاقتصادية الأخيرة، وبخاصة في ما يتعلق بمراجعة السياسات المزمع اتخاذها مستقبلاً، كما تتضمن المشاورات التقرير السنوي الذي يعرض على المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي. وقال وزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي ان بعثة الصندوق تهدف الى مراجعة أداء النشاط الاقتصادي ككل لإعداد تقرير محوري يعتبر بمثابة المرجعية الأساسية لكل المؤسسات الدولية التي تهتم بشأن الاقتصاد المصري والاستثمار فيه».
الخبر في صياغته يبدو موجهاً إلى اختصاصيين ومحصوراً في الاقتصاد ومعزولاً عن تطورات أكثر شمولاً جارية في مصر أو ستجري فيها. الخبر يعني أيضاً أن الحكومة المصرية تربط سياساتها الاقتصادية بمشاورات مسبقة مع صندوق النقد الدولي وأنها أصبحت تعتبر أن موقف الصندوق من تلك السياسات هو «المرجعية الأساسية» لكل المؤسسات الدولية الأخرى. المبالغات الصارخة هنا تمثل في أفضل الحالات أنصاف حقائق لكن العنصر الغائب في القصة كلها هو أن تلك السياسات تمس حياة ملايين المصريين ومصيرهم في حاضرهم ومستقبلهم، ما يجعلهم ضحايا متوقعين تأكيداً لما يراه وينصح به صندوق النقد الدولي في واشنطن.
لصندوق النقد الدولي اسم آخر عند بسطاء المصريين الذين يعتبرونه «صندوق النكد الدولي» بسبب ظروف سابقة بدأت بتظاهرات شعبية غاضبة في كانون الثاني (يناير) 1977 نتيجة قرارات حكومية مفاجئة برفع أسعار سلع أساسية استجابة لنصائح صندوق النقد الدولي في حينها. لكن بصرف النظر عن الحال المصرية تحديداً، فإن سياسات وبرامج ونصائح الصندوق هي التي ثبت بعد ذلك أنها المسؤولة مباشرة عن خراب دول ونهب أموال وبطالة مئات الملايين في دول تمتد من المكسيك والأرجنتين في نصف الكرة الغربي الى «النمور الآسيوية» في جنوب شرقي آسيا وخرابها المستعجل في أزمة العامين 1997 و1998.
صندوق النقد الدولي يشترط تقليدياً على كل حكومة أن تحتفظ بالمشاورات سرية وألا تنسب الحكومة ما ستتخذه من اجراءات بعد ذلك اليه، وانما تتحمل هي وزرها أمام شعبها. الصندوق نشأ أساساً بقيادة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهدفه ضبط أسواق المال في الدول الأعضاء بما يناسب رؤوس الأموال الدولية. الصندوق لديه كذلك روشتة علاج واحدة متكررة لكل دولة تذهب اليه بقدميها طالبة المساعدة. الروشتة هي: انكماش اقتصادي - تحرير العملة المحلية من القيود وتخفيضها - رفع اسعار الطاقة والغاء الدعم الاجتماعي - تكوين احتياطي من الدولار الأميركي تحديداً - تحرير رأس المال المحلي من أي مسؤوليات اجتماعية - طرح مشروعات القطاع العام للبيع بأقصى سرعة ومن الأفضل بيعها للأجانب... باختصار: اقتصاد السوق.
في زلزال العامين 1997 و1998 الذي عصف باقتصاديات دول «النمور الآسيوية»، كانت المفارقة أن تقارير الصندوق عن تلك الدول تعظم من شأن نهضتها الاقتصادية وتحث بقية دول العالم على تقليدها في اتجاهها أخيراً الى تحرير أسواقها المالية بعد طول قيود. كان ذلك في ذروة فترة نصح فيها الصندوق تلك الدول بتحرير حركة رأس المال دخولاً وخروجاً تخلصاً من القيود التي جرى فرضها في سنوات النهضة الاقتصادية. في البداية، تدفقت اليها أموال أجنبية فعلاً. لكن فجأة، وبضربة معلم، قررت تلك الأموال مفاجأة كل دولة بالخروج على وجه السرعة. وبغمضة عين اكتشفت دولة بعد الأخرى أنها تحولت من الغني الى الفقر ومن العمالة الى البطالة ومن التصدير الى الاستيراد ومن دائن الى مدين.
في تلك الأزمة الكبرى - نتذكر - كان رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد وقتها هو الوحيد الذي تمرد على صندوق النقد الدولي، واتهمه بالتآمر على تلك الدول لحساب الرأسمالية الدولية، مقرراً - فوراً - العودة الى القيود الصارمة على خروج رؤوس الأموال الى الخارج. في حينها، أصبح صندوق النقد الدولي ومشايعوه ساخطين بشدة على مهاتير محمد واجراءاته. واتهموه بالتحول من الانفتاح الى الانغلاق ومن الحرية الى التقييد... الخ. لكن... باحتجاجات أو بغيرها اختار مهاتير محمد مصلحة شعبه أولاً وكانت النتيجة تالياً هي أن ماليزيا أصبحت أول وأسرع دولة تخرج من الأزمة وتسترد عافيتها الاقتصادية.
دول أخرى لم تكن محظوظة بهذا القدر وإنما استسلمت بالكامل لمشورة صندوق النقد الدولي، فباعت قطاعها العام، بل وحتى مرافقها العامة. وبعضها كالأرجنتين أخذ بالدولار الأميركي كعملة وطنية فأصبحت النتيجة الحتمية هي الخراب المستعجل وتلال من الديون الخارجية. النتيجة هنا ليست مفاجئة لأن صندوق النقد الدولي تحول في الواقع الى وكيل أعمال للدول الرأسمالية الكبرى أولاً، ثم الى محامٍ عن مصالح الشركات الكبرى المتعددة القارات ثانياً. هؤلاء وأولئك ما يعنيهم هو شفط موارد الدول النامية في أقصر وقت، وبلا رحمة. فإذا خرج ملايين الناس غاضبين الى الشوارع ضد حكوماتهم فلا بأس. تستطيع الحكومة التوسع في القمع والسجون والمعتقلات فهذا هو الجانب المسموح من صندوق النقد الدولي بالتوسع فيه، في مقابل الانكماش في كل مجال آخر. والمؤرخ الأميركي البارز آرثر شليزنغر كتب غير مرة يقول ان صندوق النقد الدولي لو كان موجوداً في القرن التاسع عشر وأخذت أميركا بمشورته ووصفاته لما قدر لأميركا أبداً أن تصبح القوة الاقتصادية العظمى الراهنة.
هذا يعيدنا الى الحال المصرية وما جرى فيها منذ التزام الحكومات المصرية ببرامج صندوق النقد الدولي، وفي مقدمها الاسراع فوراً في بيع القطاع العام تحت عنوان «الخصخصة» وتعويم العملة المحلية واعفاء حركة الأموال دخولاً وخروجاً من القيود الى آخر تلك المحفوظات. قبل ثلاث سنوات صدر قرار حكومي غامض ومفاجئ في مصر بتعويم جزئي للعملة المصرية. عملياً، كان هذا يعني أيضاً أن الحكومة تتيح لمواطنيها القادرين استخدام عملتهم المصرية في شراء أي قدر من الدولارات الأميركية وتحويلها الى الخارج فوراً بلا رقيب ولا حسيب. وخرج وزير الاقتصاد وقتها على شاشات التلفزيون يتحدى مشاهديه بأن يدخل أي منهم الى أي فرع لأي بنك مصري ويطلب شراء أي قدر من الدولارات، ولو بالملايين، ويطلب تحويلها لحسابه في الخارج في التو واللحظة. وقتها قال الوزير المحترم أيضاً ان التعليمات صدرت بمحاسبة ومعاقبة مدير أي بنك يتقاعس في تلبية طلبات المواطنين، فإذا نفدت الدولارات من بنكه سيوفرها له البنك المركزي من احتياطي الدولة المصرية فوراً. هدف الوزير من كل هذا - لا سمح الله - ليس استنزاف الاحتياطي المصري، ولا تسهيل مهمة غسل الأموال ولا تخفيض قيمة العملة المصرية. أبداً. الرجل كل هدفه كان اشاعة مناخ من الثقة في السوق المصرية تؤدي بالعدوى الى شعور بالثقة عند المستثمرين الأجانب فيطيرون الى مصر باستثماراتهم وكلهم ثقة في ثقة في ثقة.
الذي طار فعلاً وقتها في غمضة عين هو أربعة بلايين من الدولارات خرجت من مصر خلال شهر واحد علناً وحكومياً وشرعياً وبخاتم النسر، وبغير سؤال ولا مراجعة. بالطبع جرى الغاء القرار/ الكارثة لكن بعد خراب مالطا. ولم يحاسب أحد الوزير المحترم على نزواته. بالعكس، في الحكومة التالية (الحالية) أصبح وزيراً للمالية وتم ضم التأمينات الاجتماعية اليه. وبتلك الصفة ازداد سلطة وتحكماً، وازداد أيضاً ارتباطاً بصندوق النقد الدولي وبالبنك الدولي.
قبل أسابيع طرح الوزير شطحة أخرى من أفكاره النيرة، خصوصاً بعدما جرى ضم أموال التأمينات الاجتماعية الى مسؤولياته كوزير للمالية بحجة أن الحكومة هي الأقدر على استثمارها وتعظيم أرباحها. أموال التأمينات الاجتماعية هذه ليست أصلاً مُلكاً للحكومة وإنما هي استقطاعات منتظمة من مرتبات العاملين ادخاراً لها مع نصيب مماثل من أصحاب الأعمال تسمح للعاملين بالحصول على معاش ملائم عند التقاعد من العمل يجعل الحياة أكثر احتمالاً بالنسبة لهم ولأولادهم. الحكومة سبق لها أيضاً - وبشكل غير معلن - أن أخذت بليوني جنيه من أموال التأمينات هذه كي تضخها في البورصة تحت حجة تشجيع المستثمرين في اقبالهم على البورصة. وكانت النتيجة المفجعة هي أن الحكومة خسرت ستين في المئة من ذلك المبلغ الذي هو أصلاً جزء من مدخرات المصريين.
وحين أراد الوزير المعني الدفاع عن حجته داخل البرلمان في ضم أموال التأمينات الاجتماعية اليه، قال ان وجود وزارة مستقلة سابقاً للتأمينات الاجتماعية تدير تلك الأموال جعلها أموالاً راكدة وقليلة العائد، بدليل أنه سأل الوزيرة المختصة قبل سنتين عن الكيفية التي تدير بها تلك الأموال فقالت له انها لا تفهم شيئاً في موضوع التأمينات هذا من أصله. لسوء حظ الوزير أن زميلته السابقة المقصودة بكلماته هي السيدة ميرفت التلاوي، وهي شخصية جادة ونزيهة بشهادة الوسط الحكومي المصري، بل وحتى الشعبي.
حين قرأت الوزيرة السابقة تصريحات الوزير الحالي في الصحف بعثت برسالة الى رئيس مجلس الشعب المصري (البرلمان) تقرر فيها أنها حين كانت وزيرة للتأمينات الاجتماعية زارها في مكتبها وزير الاقتصاد وقتها وفي صحبته رئيس بنك أميركي كي يزكي رغبة هذا البنك الأميركي في أن تسند اليه ادارة واستثمار أموال التأمينات الاجتماعية (المصرية) وهي بمئات البلايين... وتحديداً استثمارها خارج مصر. عند ذلك الحد قامت الوزيرة بإنهاء المقابلة فوراً.
وزير الاقتصاد وقتها الذي أصبح وزيراً للمالية حالياً وجرى ضم أموال التأمينات الاجتماعية اليه لزم الصمت في البرلمان حين تليت رسالة الوزيرة السابقة. لكن رده العملي لخصه خبر منشور في 20/4/2006 عن سفره الى واشنطن لحضور الاجتماعات نصف السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويمضي الخبر ليقرر ان وزير المالية «سيلتقي مع كريستيان بورتمان نائب رئيس البنك الدولي لبحث أوجه المساعدة الفنية لمصر في ما يتعلق بتطوير نظام المعاشات والتأمينات الاجتماعية في السوق المصرية مع بحث أفضل نظم الدعم ليصبح أكثر كفاءة وفاعلية والاستفادة من خبرات البنك الدولي في تطبيق نظم تسهم في تطوير الدعم كما هو مطبق في أميركا اللاتينية». انتهى الخبر.
والترجمة: بدل أن تجيء أميركا بأموالها الى مصر للاستثمار فيها، ستذهب مصر الفقيرة بمدخرات فقرائها الى البنوك الأميركية وتقوم بتشغيلها بتوجيهات من البنوك الأميركية. تماماً بمثل ما سعى رئيس بنك أميركي قبل عامين الى الوزيرة التلاوي في القاهرة ليحضها على تسليمه مدخرات المصريين هذه، فأنهت المقابلة فوراً. بعدها كان الرد هو انهاء خدمة الوزيرة ذاتها ومكافأة الوسيط المصري المحترم بوضع أموال التأمينات المصرية تحت تصرفه، وبدوره سينفذ الآن ما عجز عنه قبل عامين.
أما القول إن هذه ليست بدعة، وإنما تشبه بما «هو مطبق في أميركا اللاتينية» فهو حتى ليس كلام أراجوزات. فحتى الأراجوزات يعرفون الخراب الذي جرى في أميركا اللاتينية... ويعرفون أكثر أن نتيجة ذلك هو رفض دول أميركا اللاتينية بالجملة محاولات أميركا للتدخل في سياساتها الاقتصادية اتعاظاً من خراب الأرجنتين والمكسيك. الأراجوزات يعرفون. لكن بعض الوزراء المصريين لا يعرف. وفي أحسن الأحوال يتظاهر بأنه لا يعرف. أما في أسوأ الأحوال... حسنا. أسوأ الأحوال ستكون من نصيب ملايين المصريين ضحايا هذا التحايل غير المسبوق بالمرة.
* كاتب مصري.
Comments