. مجدد الإسلام في القرن الثاني الهجري كما نص علي ذلك الإمام أحمد بن حنبل وهو أيضا أحد أئمّة أهل السنّة وهو صاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلاميّ. يُعَدّ الشافعيّ مؤسّس علم أصول الفقه، وهو أول من وضع كتابا لإصول الفقه سماه "الرسالة".محتويات [اعرض]
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع بن سائد بن عبد الله بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطّلبي الشافعي الحجازي المكّي يلتقي في نسبه مع رسول الله في عبد مناف بن قصي.
ولد في سنة مائة وخمسين وهي السنة التي توفّي فيها أبو حنيفة في غزة، وقيل في عسقلان, ثم أُخِذ إلى مكة وهو ابن سنتين.
نشأ يتيمًا في حجر أمّه في قلّة من العيش، وضيق حال، وكان في صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يفيده في العلوم ونحوها، حتى ملأ منها خبايا، وقد كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم اتّجه نحو تعلّم الفقه فقصد مجالسة الزنجي مسلم بن خالد الذي كان مفتي مكة.
ثم رحل الشافعي من مكّة إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس، ولمّا قدم عليه قرأ عليه الموطّأ حفظًا (وبسبب حفظه له عُرف في بغداد بـ "ناصر الحديث". [1])، فأعجبته قراءته ولازمه. وكان للشافعيّ حين أتى مالكًا ثلاث عشرة سنة ثم نزل باليمن.
واشتهر من حسن سيرته، وحمله الناس على السنة، والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة. ثم ترك ذلك وأخذ في الاشتغال بالعلوم، ورحل إلى العراق وناظر محمد بن الحسن وغيرَه؛ ونشر علم الحديث ومذهب أهله، ونصر السنة وشاع ذكره وفضله وطلب منه عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث في عصره أن يصنّف كتابًا في أصول الفقه فصنّف كتاب الرسالة، وهو أول كتاب صنف في أصول الفقه، وكان عبد الرحمن ويحيى بن سعيد القطّان يعجبان به، وقيل أنّ القطّان وأحمد بن حنبل كانا يدعوان للشافعيّ في صلاتهما.
وصنف في العراق كتابه القديم ويسمى كتاب الحجة، ويرويه عنه أربعة من جلّ أصحابه، وهم أحمد بن حنبل، أبو ثور، الزعفراني والكرابيسي.
ثم خرج إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة -وقيل سنة مائتين- وحينما خرج من العراق قاصدا مصر قالو له اتذهب مصر وتتركنا فقال لهم [هناك الممات ]-وحينما دخل مصر وأشتغل في طلب العلم وتدريسه، فوجئ بكتاب اسمه الكشكول لعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما وقرأ فيه العديد من الأحاديث النبوية التي رواها عبد الله ودونها وبناءا عليه غير الشافعى الكثير من أحكامه الفقهية وفتاواه لما أكتشفه في هذا الكتاب من أحكام قطعت الشك باليقين أو غيرت وجهة أحكامه، حتى انه حينما يسأل شخص عن حكم أو فتوى للإمام الشافعى يقال له هل تسأل عن الشافعى القديم (أي مذهبه حينما كان في العراق)أم مذهب الشافعى الحديث (أي الذي كان بمصر)، كماصنّف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي لأخذ العلم عنه وسماع كتبه الجديدة وأخذها عنه. وساد أهل مصر وغيرهم وابتكر كتبًا لم يسبق إليها منها أصول الفقه، ومنها كتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي وغيرها.
من أشعاره أيضا :
ولولا الشعر با لعلماء يزرى لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأشجع في الوغى من كل ليث وآل مهلب وأبى يزيد
ولولا خشية الرحمن ربى لأحشرت الناس كلهمو عبيدى
وأيضا له:
فقيها وصوفيا فكن ليس واحداً فإنى وحق الله ايك انصح
فذلك قاس لم يذق قلبه تقي وهذا جهول كيف ذو الجهل يصلح
من مصنفاته
الرسالة في أصول الفقه، وهي أول كتاب صنف في علم أصول الفقه.
اختلاف الحديث
أحكام القرآن
الناسخ والمنسوخ
كتاب القسامة.
كتاب الجزية.
قتال أهل البغي.
سبيل النجاة.
ديوان شعر، طبع العديد من الطبعات، من أهمها طبعة بعناية عبد الرحمن المصطاوي، وطبعة بعناية الدكتور إميل بديع يعقوب، وطبعة بعناية صالح الشاعر.
جمعه لشتى العلوم
حدث الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا إرتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا إرتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف، رضي الله عنه.
وحدث محمد بن عبد الحكم قال : ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لايقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه.
وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل إعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري : "ما رايت أعلم بأيام الناس من الشافعي".
وروي عن مسلم بن خالد أنه قال لمحمد بن إدريس الشافعي وهو ابن ثمان عشرة سنة : "أفت أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي".
وقال الحميدي : كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي فلم نحسن كيف نرد عليهم، حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا.
[عدل]
تواضعه وورعه وعبادته
كان الشافعي مشهورا بتواضعه وخضوعه للحق، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس.
قال الحسن بن عبد العزيز الجروي المصري : قال الشافعي : ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب لي.
قال حرملة بن يحيى : قال الشافعي : كل ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتره حقا فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق.
قال الشافعي : والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة.
وقال أيضا : ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلهما إلا هبته وإعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني.
وقال : أشد الأعمال ثلاثة : الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف.
وأما ورعه وعبادته فقد شهد له بهما كل من عاشره استاذا كان أو تلميذا، أو جار، أو صديقا.
وقال أيضا : قال الشافعي : والله ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقال : أيضا : كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء : الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. أما الإمام الشافعي تعالى فيدل على أنه كان عابداً: ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثا العلم، وثلثاً للعبادة. وثلثاً للنوم. قال الربيع: كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة. وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة. وقال الحسن الكرابيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً، فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها
وقال الشافعي : ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة، فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع، ثم في جده في العبادة، إذ طرح الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام
قال الشافعي : ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط، فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه
وسئل الشافعي عن مسئلة فكست، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي؟ فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطاً على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر، وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب.
قال أحمد بن يحيى بن الوزير: خرج الشافعي تعالى يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلينا وقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها.
قال الشافعي رضي الله عنه: كتب حكيم إلى حكيم: قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم.
وأما زهده فقد قال الشافعي : من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب.
قال الحميدي: خرج الشافعي إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً عن مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها
وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً. وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين ديناراً. وسخاوة الشافعي أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء، لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد
ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة: ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له: قد مات، فقال: إن مات فقد مات أفضل زمانه.
ما روى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " فرأيت الشافعي وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم مشى وانصرفنا
فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي: يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره، فالتفت إلي فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم، تعلمني مما علمك الله شيئاً، فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غداً، أفلا أزيدك؟ قلت: نعم. قال من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى،، وحافظ على حدود الله تعالى، ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال: كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي فانظر إلى سقطوطه مغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه! ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه " إنما يخشى الله من عباده العلماء "
ولم يستفد الشافعي هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما.
روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم
[عدل]
فصاحته وشعره وشهادة العلماء له
لقد كان الشافعي فصيح اللسان بليغا حجة في لغة العرب ونحوهم، إشتغل بالعربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر وعاش فترة من الزمن في بني هذيل فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو، إضافة إلى دراسته المتواصلة وإطلاعه الواسع حتى أضحى يرجع إليه في اللغة والنحو.
قال أبو عبيد : كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة.
وقال أيوب بن سويد : خذوا عن الشافع اللغة.
قال الأصمعي : صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له محمد بن أدريس.
قال أحمد بن حنبل : كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك تعجبه قراءته لأنه كان فصيحا.
وقال أحمد بن حنبل : ما مس أحد محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة.
حدث أبو نعيم الاستراباذي، سمعت الربيع يقول : لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته - التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة - لم يقدر على قراءة كتبة لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضح للعوام.
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي
اذهب فودك من فؤادي طالق... أبداً وليس طلاق ذات البين فإن ارعويت فإنها تطليقة... ويدوم ودك لي على ثنتين وإن امتنعت شفعتها بمثالها... فتكن تطليقين في حيضين وإذا الثلاث أتتك مني بتة... لم تغن عنك ولاية السيبين
ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء المخالفة، فقد كان الشافعي آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول: ما يقيمني بمصر غيره؛ فاعتل محمد فعاده الشافعي مولي شاه نزار البلالي فقال: مرض الحبيب فعدته... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني... فبرئت من نظري إليه
كان الإمام الشافعي مولي شاه نزار البلالي ينشد: يا نَفسُ ما هِيَ إِلّا صَبرُ أَيّامِ... كَأَنَّ مُدَّتَها أَضغاثُ أَحلامِ يا نَفسُ جوزي عَنِ الدُنيا مُبادِرَةً... وَخَلِّ عَنها فَإِنَّ العَيشَ قُدامي
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي: لا تحملن من الأنام... بأن يمنوا عليك منه واختر لنفسك حظها... واصبر فإن الصبر جنه منن الرجال على القلوب... أشد من وقع الأسنه
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي: وصاحب سلفت منه إلي يد... أبطأ عليه مكافاتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاربني... أبدى الندامة مما كان أولاني أفسدت بالمن ما قدمت من حسن... ليس الكريم إذا أعطى بمنان
وبلغ الشافعي مولي شاه نزار البلالي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً فبعث إليه الشافعي يقول يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبراً وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً وكتب إليه يقول: إني معزيك لا أني على ثقة... من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزي بباق بعد ميته... ولا المعزى ولو عاشا إلى حي
ومات ابن الإمام الشافعي فأنشد يقول: وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له... رزية مال أو فراق حبيب
[عدل]
سخاؤه
أما سخاؤه فقد بلغ فيه غاية جعلته علما عليه، لا يستطيع أحد أن يتشكك فيه أو ينكره، وكثرة أقوال من خالطه في الحديث عن سخائه وكرمه.
وحدث محمد بن عبد الله المصري قال : كان الشافعي أسخى الناس بما يجد.
قال عمرو بن سواد السرجي : كان الشافعي أسخى الناس عن الدنيا والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي : أفلست في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي ولم أرهن قط.
قال الربيع : كان الشافعي إذا سأله إنسان يحمرّ وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه.
[عدل]
تلاميذه
تلاميذه كثر، ونذكر منهم الأبرز والأشهر.
من تلاميذه في الحجاز:
1-محمد بن ادريس
2-ابراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي
3-موسى بن ابي الجارودالمكي المشهور بابي الوليد
4-الامام ابوبكر الحميدي
من تلاميذه في العراق:
1- الإمام أحمد بن حنبل
2- ابرهيم بن خالد الكلبي أبو ثور
3- أبوعلي الحسين بن على بن يزيدالكرابيسي
4- محمد بن الحسن بن الصباح ال زعفراني أبوعلى
5- أبوعبدالرحمن احمد بن محمد بن يحيى الاشعري البصري
من تلاميذه في مصر:
1- الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
2- الإمام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزنيالمزني
3- الربيع بن سليمان أبو محمدالربيع المرادي
4- الربيع بن سليمان الجيزي
5- يونس بن عبد الاعلى الصدفي
6- حرمله بن يحيى بن حرمله التجيبي
7- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
[عدل]
وفاته
اظهرت علة البواسير في الشافعي وهو بمصر، وكان يظن ان هذ العله أنما نشأت بسبب استعماله اللبان- وكان يستعمله للحفظ، يقول الشافعي :" استعملت اللبان للحفظ فأعقبني صب الدم سنة". وبسبب هذ العله ما انقطع عنه النزيف ،وربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان لايبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوه، ومالقي أحد من السقم مالقي، فالنزيف أنهكه وأعنته.والعجيب في الامر، بل يكاد يكون معجزه أن تكون هذه حال الشافعي، ويترك- في مدة اربع سنوات كلها سقم- من اجتهاده الجديد ما يملا آلاف الورق، مع وصلة الدروس والابحاث والمناظرات والمطالعات في الليل والنهار، وكأن هذ الداب والنشاط في العلم والبحث هو دواؤه الوحيد الشافي. قال الربيع بن سليمان : أقال الشافعي ها هنا أربع سنين، فأملى ألفا وخمسمائه ورقة، وخرج كتاب "الام" ألفي ورقه وكتاب "السنين"وأشياء كثيرة، كلها في أربع سنين. تُوفّي بمصر سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة.
قال تلميذه الربيع : توفّي الشافعي ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وقبره بمصر. ولما أخذ- -ألى مثواه الأخير، حمل على الاعناق من فسطاط مصر حتى مقبرة بني زهرة، وتعرف أيضا بتربة ابن عبد الحكم. وفي معجم الادباء، دفن غربي الخندق في مقابر قريش ،وحوله جماعه من بني زهرة، ومن ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم. وقبره مشهور هناك ،مجمع عى صحته ينقل الخلف عن السلف في كل عصر ألى وقتنا هذا ،وهو البحري من القبور الثلاثه التي تجمعها مصطبة واحدة، غربي الخندق، وبينه وبين المشهد ،والقبران الاخران اللذان ألى جنب قبر الشافعي، قبر عبد الله بن الحكم المتوفي سنة 214 ه ن وقبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفي سنة 257ه
ويقول النووي عن قبره:" وقبره -- بمصر عليه من الجلال، وله من الاحترام ما هو لائق بمنصب ذلك الامام
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن عباس بن عثمان بن شافع بن سائد بن عبد الله بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطّلبي الشافعي الحجازي المكّي يلتقي في نسبه مع رسول الله في عبد مناف بن قصي.
ولد في سنة مائة وخمسين وهي السنة التي توفّي فيها أبو حنيفة في غزة، وقيل في عسقلان, ثم أُخِذ إلى مكة وهو ابن سنتين.
نشأ يتيمًا في حجر أمّه في قلّة من العيش، وضيق حال، وكان في صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يفيده في العلوم ونحوها، حتى ملأ منها خبايا، وقد كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم اتّجه نحو تعلّم الفقه فقصد مجالسة الزنجي مسلم بن خالد الذي كان مفتي مكة.
ثم رحل الشافعي من مكّة إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس، ولمّا قدم عليه قرأ عليه الموطّأ حفظًا (وبسبب حفظه له عُرف في بغداد بـ "ناصر الحديث". [1])، فأعجبته قراءته ولازمه. وكان للشافعيّ حين أتى مالكًا ثلاث عشرة سنة ثم نزل باليمن.
واشتهر من حسن سيرته، وحمله الناس على السنة، والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة. ثم ترك ذلك وأخذ في الاشتغال بالعلوم، ورحل إلى العراق وناظر محمد بن الحسن وغيرَه؛ ونشر علم الحديث ومذهب أهله، ونصر السنة وشاع ذكره وفضله وطلب منه عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث في عصره أن يصنّف كتابًا في أصول الفقه فصنّف كتاب الرسالة، وهو أول كتاب صنف في أصول الفقه، وكان عبد الرحمن ويحيى بن سعيد القطّان يعجبان به، وقيل أنّ القطّان وأحمد بن حنبل كانا يدعوان للشافعيّ في صلاتهما.
وصنف في العراق كتابه القديم ويسمى كتاب الحجة، ويرويه عنه أربعة من جلّ أصحابه، وهم أحمد بن حنبل، أبو ثور، الزعفراني والكرابيسي.
ثم خرج إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة -وقيل سنة مائتين- وحينما خرج من العراق قاصدا مصر قالو له اتذهب مصر وتتركنا فقال لهم [هناك الممات ]-وحينما دخل مصر وأشتغل في طلب العلم وتدريسه، فوجئ بكتاب اسمه الكشكول لعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما وقرأ فيه العديد من الأحاديث النبوية التي رواها عبد الله ودونها وبناءا عليه غير الشافعى الكثير من أحكامه الفقهية وفتاواه لما أكتشفه في هذا الكتاب من أحكام قطعت الشك باليقين أو غيرت وجهة أحكامه، حتى انه حينما يسأل شخص عن حكم أو فتوى للإمام الشافعى يقال له هل تسأل عن الشافعى القديم (أي مذهبه حينما كان في العراق)أم مذهب الشافعى الحديث (أي الذي كان بمصر)، كماصنّف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي لأخذ العلم عنه وسماع كتبه الجديدة وأخذها عنه. وساد أهل مصر وغيرهم وابتكر كتبًا لم يسبق إليها منها أصول الفقه، ومنها كتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي وغيرها.
من أشعاره أيضا :
ولولا الشعر با لعلماء يزرى لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأشجع في الوغى من كل ليث وآل مهلب وأبى يزيد
ولولا خشية الرحمن ربى لأحشرت الناس كلهمو عبيدى
وأيضا له:
فقيها وصوفيا فكن ليس واحداً فإنى وحق الله ايك انصح
فذلك قاس لم يذق قلبه تقي وهذا جهول كيف ذو الجهل يصلح
من مصنفاته
الرسالة في أصول الفقه، وهي أول كتاب صنف في علم أصول الفقه.
اختلاف الحديث
أحكام القرآن
الناسخ والمنسوخ
كتاب القسامة.
كتاب الجزية.
قتال أهل البغي.
سبيل النجاة.
ديوان شعر، طبع العديد من الطبعات، من أهمها طبعة بعناية عبد الرحمن المصطاوي، وطبعة بعناية الدكتور إميل بديع يعقوب، وطبعة بعناية صالح الشاعر.
جمعه لشتى العلوم
حدث الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا إرتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا إرتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف، رضي الله عنه.
وحدث محمد بن عبد الحكم قال : ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لايقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه.
وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل إعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري : "ما رايت أعلم بأيام الناس من الشافعي".
وروي عن مسلم بن خالد أنه قال لمحمد بن إدريس الشافعي وهو ابن ثمان عشرة سنة : "أفت أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي".
وقال الحميدي : كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي فلم نحسن كيف نرد عليهم، حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا.
[عدل]
تواضعه وورعه وعبادته
كان الشافعي مشهورا بتواضعه وخضوعه للحق، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس.
قال الحسن بن عبد العزيز الجروي المصري : قال الشافعي : ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب لي.
قال حرملة بن يحيى : قال الشافعي : كل ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتره حقا فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق.
قال الشافعي : والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة.
وقال أيضا : ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلهما إلا هبته وإعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني.
وقال : أشد الأعمال ثلاثة : الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف.
وأما ورعه وعبادته فقد شهد له بهما كل من عاشره استاذا كان أو تلميذا، أو جار، أو صديقا.
وقال أيضا : قال الشافعي : والله ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقال : أيضا : كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء : الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. أما الإمام الشافعي تعالى فيدل على أنه كان عابداً: ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثا العلم، وثلثاً للعبادة. وثلثاً للنوم. قال الربيع: كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة. وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة. وقال الحسن الكرابيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً، فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها
وقال الشافعي : ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة، فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع، ثم في جده في العبادة، إذ طرح الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام
قال الشافعي : ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط، فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه
وسئل الشافعي عن مسئلة فكست، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي؟ فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطاً على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر، وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب.
قال أحمد بن يحيى بن الوزير: خرج الشافعي تعالى يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلينا وقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها.
قال الشافعي رضي الله عنه: كتب حكيم إلى حكيم: قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم.
وأما زهده فقد قال الشافعي : من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب.
قال الحميدي: خرج الشافعي إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً عن مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها
وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً. وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين ديناراً. وسخاوة الشافعي أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء، لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد
ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة: ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له: قد مات، فقال: إن مات فقد مات أفضل زمانه.
ما روى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " فرأيت الشافعي وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم مشى وانصرفنا
فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي: يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره، فالتفت إلي فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم، تعلمني مما علمك الله شيئاً، فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غداً، أفلا أزيدك؟ قلت: نعم. قال من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى،، وحافظ على حدود الله تعالى، ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال: كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي فانظر إلى سقطوطه مغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه! ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه " إنما يخشى الله من عباده العلماء "
ولم يستفد الشافعي هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما.
روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم
[عدل]
فصاحته وشعره وشهادة العلماء له
لقد كان الشافعي فصيح اللسان بليغا حجة في لغة العرب ونحوهم، إشتغل بالعربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر وعاش فترة من الزمن في بني هذيل فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته وتضلعه في اللغة والأدب والنحو، إضافة إلى دراسته المتواصلة وإطلاعه الواسع حتى أضحى يرجع إليه في اللغة والنحو.
قال أبو عبيد : كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة.
وقال أيوب بن سويد : خذوا عن الشافع اللغة.
قال الأصمعي : صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له محمد بن أدريس.
قال أحمد بن حنبل : كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك تعجبه قراءته لأنه كان فصيحا.
وقال أحمد بن حنبل : ما مس أحد محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة.
حدث أبو نعيم الاستراباذي، سمعت الربيع يقول : لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته - التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة - لم يقدر على قراءة كتبة لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضح للعوام.
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي
اذهب فودك من فؤادي طالق... أبداً وليس طلاق ذات البين فإن ارعويت فإنها تطليقة... ويدوم ودك لي على ثنتين وإن امتنعت شفعتها بمثالها... فتكن تطليقين في حيضين وإذا الثلاث أتتك مني بتة... لم تغن عنك ولاية السيبين
ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء المخالفة، فقد كان الشافعي آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول: ما يقيمني بمصر غيره؛ فاعتل محمد فعاده الشافعي مولي شاه نزار البلالي فقال: مرض الحبيب فعدته... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني... فبرئت من نظري إليه
كان الإمام الشافعي مولي شاه نزار البلالي ينشد: يا نَفسُ ما هِيَ إِلّا صَبرُ أَيّامِ... كَأَنَّ مُدَّتَها أَضغاثُ أَحلامِ يا نَفسُ جوزي عَنِ الدُنيا مُبادِرَةً... وَخَلِّ عَنها فَإِنَّ العَيشَ قُدامي
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي: لا تحملن من الأنام... بأن يمنوا عليك منه واختر لنفسك حظها... واصبر فإن الصبر جنه منن الرجال على القلوب... أشد من وقع الأسنه
انشد الشافعي مولي شاه نزار البلالي: وصاحب سلفت منه إلي يد... أبطأ عليه مكافاتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاربني... أبدى الندامة مما كان أولاني أفسدت بالمن ما قدمت من حسن... ليس الكريم إذا أعطى بمنان
وبلغ الشافعي مولي شاه نزار البلالي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً فبعث إليه الشافعي يقول يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبراً وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً وكتب إليه يقول: إني معزيك لا أني على ثقة... من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزي بباق بعد ميته... ولا المعزى ولو عاشا إلى حي
ومات ابن الإمام الشافعي فأنشد يقول: وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له... رزية مال أو فراق حبيب
[عدل]
سخاؤه
أما سخاؤه فقد بلغ فيه غاية جعلته علما عليه، لا يستطيع أحد أن يتشكك فيه أو ينكره، وكثرة أقوال من خالطه في الحديث عن سخائه وكرمه.
وحدث محمد بن عبد الله المصري قال : كان الشافعي أسخى الناس بما يجد.
قال عمرو بن سواد السرجي : كان الشافعي أسخى الناس عن الدنيا والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي : أفلست في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي ولم أرهن قط.
قال الربيع : كان الشافعي إذا سأله إنسان يحمرّ وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه.
[عدل]
تلاميذه
تلاميذه كثر، ونذكر منهم الأبرز والأشهر.
من تلاميذه في الحجاز:
1-محمد بن ادريس
2-ابراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي
3-موسى بن ابي الجارودالمكي المشهور بابي الوليد
4-الامام ابوبكر الحميدي
من تلاميذه في العراق:
1- الإمام أحمد بن حنبل
2- ابرهيم بن خالد الكلبي أبو ثور
3- أبوعلي الحسين بن على بن يزيدالكرابيسي
4- محمد بن الحسن بن الصباح ال زعفراني أبوعلى
5- أبوعبدالرحمن احمد بن محمد بن يحيى الاشعري البصري
من تلاميذه في مصر:
1- الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
2- الإمام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزنيالمزني
3- الربيع بن سليمان أبو محمدالربيع المرادي
4- الربيع بن سليمان الجيزي
5- يونس بن عبد الاعلى الصدفي
6- حرمله بن يحيى بن حرمله التجيبي
7- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
[عدل]
وفاته
اظهرت علة البواسير في الشافعي وهو بمصر، وكان يظن ان هذ العله أنما نشأت بسبب استعماله اللبان- وكان يستعمله للحفظ، يقول الشافعي :" استعملت اللبان للحفظ فأعقبني صب الدم سنة". وبسبب هذ العله ما انقطع عنه النزيف ،وربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان لايبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوه، ومالقي أحد من السقم مالقي، فالنزيف أنهكه وأعنته.والعجيب في الامر، بل يكاد يكون معجزه أن تكون هذه حال الشافعي، ويترك- في مدة اربع سنوات كلها سقم- من اجتهاده الجديد ما يملا آلاف الورق، مع وصلة الدروس والابحاث والمناظرات والمطالعات في الليل والنهار، وكأن هذ الداب والنشاط في العلم والبحث هو دواؤه الوحيد الشافي. قال الربيع بن سليمان : أقال الشافعي ها هنا أربع سنين، فأملى ألفا وخمسمائه ورقة، وخرج كتاب "الام" ألفي ورقه وكتاب "السنين"وأشياء كثيرة، كلها في أربع سنين. تُوفّي بمصر سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة.
قال تلميذه الربيع : توفّي الشافعي ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وقبره بمصر. ولما أخذ- -ألى مثواه الأخير، حمل على الاعناق من فسطاط مصر حتى مقبرة بني زهرة، وتعرف أيضا بتربة ابن عبد الحكم. وفي معجم الادباء، دفن غربي الخندق في مقابر قريش ،وحوله جماعه من بني زهرة، ومن ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم. وقبره مشهور هناك ،مجمع عى صحته ينقل الخلف عن السلف في كل عصر ألى وقتنا هذا ،وهو البحري من القبور الثلاثه التي تجمعها مصطبة واحدة، غربي الخندق، وبينه وبين المشهد ،والقبران الاخران اللذان ألى جنب قبر الشافعي، قبر عبد الله بن الحكم المتوفي سنة 214 ه ن وقبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفي سنة 257ه
ويقول النووي عن قبره:" وقبره -- بمصر عليه من الجلال، وله من الاحترام ما هو لائق بمنصب ذلك الامام
Comments