في ذكري ثورة يناير تعالوا نقرا ماذا قالوا عن يناير و عبد الناصر
مقال لبهاء طاهر
في مثل هذه المناسبة العزيزة على نفسي كتبتُ مقالاً في صحيفة «العربي» عن معني عبدالناصر، أشرت فيه إلى لحظة استوقفتني في أواخر السبعينيات، كنت أمُر بإحدى قري كينيا، فوجدت بقالاً يعلق في دكانه الصغير صورة لعبدالناصر، سألته عن السبب فرد على الرجل ببساطة وهو يشير للصورة: «هذا هو أبو افريقيا» أيامها كانت كل التهم تكال للزعيم الراحل ويتعرض شخصه وتاريخه لأقسى الحملات الضارية هنا في مصر (ولم تتوقف أبداً بالمناسبة) غير أني سألت نفسي: ما الذي يعنيه ناصر لهذا البقال الأفريقي الفقير في أعماق القارة؟ وسألتها بعد ذلك كثيراً ما الذي يعنيه لأناس لم يعرفوه أو يعاصروه، لأطفال وكبار يرفعون صوره وهم يخرجون في مظاهرات من أجل فلسطين أو العراق من أقصي الغرب العربي إلى مشرقه؟ ما الذي يمثله عبدالناصر فعلاً في الضمير الجمعي للفقراء والضعفاء، في وطننا العربي المنتهك وفي قارتنا المنهوبة؟ وما هو حلمه الباقي؟
أحاول الإجابة من موقعي ككاتب عاش التجربة كلها بحلوها ومرها أذكر مثلاً من أيام الشباب الشعارات الكبيرة، ولكن لعلي لم أفهم دلالتها إلا متأخرا، كانت تلك الشعارات عن محاربة الاستعمار وتأييد الثورات وحركات التحرر الوطني من الجزائر غرباً إلى الخليج العربي ومنها شمالاً إلى الجنوب الإفريقي تلقي تأييداً شعبياً جارفاً، لكن كثيراً من المثقفين كانوا يتندرون عليها: أرسل ناصر برقية تأييد للثورة على السفينة بونتي! وكان ذلك أيضاً حال كثير من الشعارات التي رفعها مثل القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.. إلخ.
أدركت فيما بعد ما أدركته الجماهير بغطرستها ـأو حتى بلا وعيهاـ وهي تؤيد هذه الشعارات: إن عبدالناصر يجسد أملها في التحرر الشامل من هيمنة أسياد الغرب وتابيعهم وذيولهم الذين فرضوا علينا الفقر والضعف، وكان الحلم الذي يقود سياسته في محيطه العربي والإفريقي هو أن يتحد الضعفاء حول المعاني التي كان يبشر بها: الاستقلال والعدالة الاجتماعية والتعاون في التنمية فيتحول ضعفهم بالاتحاد إلى قوة في عالم لا مكان فيه إلا للأقوياء.
حلم أوشك بإصراره أن يتحول إلى حقيقة، حين قاد أول و(آخر) وحدة عربية في القرن العشرين مع سوريا، وحين أصبحت القاهرة عاصمة لحركات التحرر من الاستعمار في الوطن العربي وأفريقيا، ومركزا رئيسيا لحركة عالمية للاستقلال عن هيمنة أسياد الأمس هي حركة عدم الانحياز وفي وقت ما بدا أن فجر الضعفاء والفقراء على وشك أن يشرف وأن عالما جديدا ينتصر مع استقلال المستعمرات العربية والأفريقية واحدة بعد الأخرى، ومع انتشار الدعوة للوحدة العربية والوحدة الأفريقية.
لكن كل إنسان يعرف أن وحدة أخري كانت تتشكل لإجهاض هذا الحلم، وحدة تضم قوي الاستعمار الغربي والصهيوني والرجعية الداخلية والعربية، وأعلم بالطبع أن كثيرين الآن ينفرون من هذه التعبيرات، الاستعمار والصهيونية والرجعية، ويعتبرونها ألفاظاً وشعارات تنسب إلى ماضٍ منقرض، فماذا لو ثبت أنها وكل الشعارات الأخرى حقيقة بحق ما نحن فيه الآن من ضعف وهوان؟ سأحاول في هذه الشهادة أن أبين ما أعنيه، فقد دار الزمن دورة وركب فوق رؤوسنا من جديد ذلك المثلث المشئوم ليعيدنا إلى ظلام الاستبداد والاستعباد، تخلصنا بالفعل من الاستعمار في عهد ناصر ولكنه عاد إلينا من الباب الخلفي، تزيا بصفات الصديق والشريك والحليف الاستراتيجي وروج أن عزتنا العربية في فرقتنا وتناحرنا وأن سلامنا الحقيقي في استسلامنا، وهكذا مثلاً فبينما كنا قادرين في عز الهزيمة على أن نتصدى لإسرائيل في حرب الاستنزاف التي قادت إلى حرب أكتوبر المجيدة صارت إسرائيل هي القوة الإقليمية العظمي التي تملي سياستها وتفرض أمرها الواقع على الجميع، لولا جذوة المقاومة الباسلة في فلسطين وفي لبنان.
وأنا لم أقل أبداً ـولا أقول الآنـ إن عبدالناصر لم يخطئ في أمور اعترف هو نفسه بها، ولابد لأي تيار ناصري يتوجه للمستقبل أن يدرس هذه الأخطاء، وأن يتلافاها وعلي رأسها غياب المشاركة الشعبية المؤسسية في القرار وفي التنفيذ.
غير أن أخطاء الوطنيين الصادقين حسنات للمفرطين التابعين! بمعني أنهم لو صنعوا لأوطانهم مثل ما صنع ثم أخطأوا مثل أخطائه لكانت مغفورة لهم خطاياهم، ولكن ماذا ولا شيء عندهم غير الخطايا؟.
وفي هذا السياق فإن الحديث عن الإنجازات أولي فما الذي قدمته الناصرية لمصر وما الذي قدمته الناصرية لمصر وما الذي تستطيع أن تقدمه مستقبلاً؟ لا تتناول هذه الكلمة تفاصيل في السياسة أو الاقتصاد، بل تتحدث عن المبادئ العامة وكيف أثرت على المجتمع وهذه المبادئ كما حددت في بداية الكلمة هي الاستقلال الوطني، والتضامن الإقليمي والعالمي مع القوي الرافضة للهيمنة الغربية، والتنمية المستقلة في إطار هذا التضامن والعدالة الاجتماعية وهي تشكل منظومة متكاملة لا يمكن الاستغناء عن أي ركن منها لتحقيق أهدافها العامة، بمعني أنه لم يكن ممكناً مثلاً دون التنمية المستقلة المستندة إلى التخطيط والوجود القوي للدولة (القطاع العام) تحقيق درجات من العدالة الاجتماعية بالتوزيع الرشيد للموارد، وهذا بدوره كان مستحيلا دون تحقيق الاستقلال الوطني ورفض التبعية، ولولا هذه التنمية المستقلة لما كان أمام الدولة سوي خيار اللجوء إلى الدول والمؤسسات الرأسمالية والاستعمارية مما يبطل تماماً فكرة الاستقلال الوطني (تذكر المعركة مع البنك الدولي لبناء السد العالي) ومما يعطل أيضاً تحقيق العدالة الاجتماعية المنتظمة والمنهجية (كان اسمها بالمناسبة أيضا الاشتراكية، لفظ آخر مهجور ويعتبر الآن عندنا سييء السمعة).
وأي دارس لتاريخ التجربة الناصرية سيكتشف الترابط الوثيق بين هذه المبادئ وعلاقتها بما حققته التجربة من طفرات في سنواتها القليلة في التنمية: أذكر تأميم القناة وبناء السد العالي وثورة التصنيع أو في مجال العدالة الاجتماعية: الإصلاح الزراعي ومكاسب الطبقة العاملة والتطور المنتظم للطبقة الوسطي: مجانية التعليم وتشغيل الخريجين وتوازن الأجور والأسعار.. إلخ.
وسيجد الدارس أيضا في هذه المنظومة من المبادئ تفسيرا لكل المعارك التي خاضتها الثورة الناصرية في الخارج والداخل، ولكل انتصاراتها وانتكاساتها، وربما سيكتشف أهم من ذلك كله أن هذه المبادئ التي كانت صالحة بالأمس مازالت أصلح لليوم وللغد.
ولنقارن هذه التجربة في مصر ـ البلد المحدود الموارد ـ بتجارب بلدان أخري في التنمية. يشير البعض كثيرا إلى البلدان التي تسمي النمور الآسيوية ونجاح تجربة التنمية الرأسمالية فيها، لقيت هذه البلدان في مسيراتها للتنمية (بدءاً باليابان نفسها) دعما ماديا كبيرا من دول الغرب التي أدارتها نموذجا يتصدي للزحف الشيوعي الكاسح حينها في آسيا، أما نحن فلم يحرمنا الغرب فقط من مثل هذا الدعم في الخمسينيات والستينيات بل فرض علينا الحصار الاقتصادي والمؤامرات الإقليمية والحروب الخارجية مع إسرائيل التي استنزفتنا. وكان انجازا نادرا أن استطاعت مصر الناصرية في هذه الظروف المعادية أن تحقق الخطة الخمسية الأولي والوحيدة الكاملة (60 ـ 65) شهدت المنظمات الدولية أيامها بأنها من أنجح خطط التنمية في العالم الثالث وأتاحت العائدات التي ولدتها جني تلك المكاسب التي حققها الشعب.
> إلى الحج والناس راجعون!
هناك شعوب أخري أغني منا بالموارد الطبيعية لكنها عانت من ظروف مماثلة لما عانيناه قبل عصر عبدالناصر، ومرت بتطورات شبيهة بما جربناه بعد عصره وأقصد بالتحديد بلدان أمريكا اللاتينية التي خضعت لقرابة ثلاثة قرون لهيمنة الجار الشمال القوي ولاستغلاله بالتحالف مع طبقات الملاك المحتكرين للمزارع والمناجم وحكم عملاء من الطغاة، وقننت الولايات المتحدة هذا الوضع في أمريكا اللاتينية بما سمته «مبدأ مونرو» الذي يقصر النفوذ والتدخل في هذه القارة عليها وحدها وللخروج من هذا الوضع الخانق الذي أفقر الشعوب وأذلها عرفت بلدان القارة العديد من الثورات والحركات الاحتجاجية للتخلص من الاستغلال الخارجي.
وعندما تراكمت على هذه البلدان بالإضافة إلى ذلك كله ديون خارجية هائلة في الستينيات والسبعينيات جربت نماذج مختلفة للتنمية الرأسمالية للخروج من أزمتها، وبعض هذه النماذج فرضتها الولايات المتحدة بقوة السلاح كما في حالة شيلي التي أطاحت برئيسها الاشتراكي المنتخب الليندي بانقلاب عسكري قاده عميلها الجنرال بينوشيه، وكانت الوصفات التقليدية لتحقيق هذه التنمية الرأسمالية هي رفع يد الدولة عن النشاط الاقتصادي، وخصخصة القطاع العام وخلق طبقة من الرأسماليين ورجال الأعمال لإدارة الاقتصاد، وإلغاء أو تقليص الدعم والخدمات للطبقات الفقيرة، وحققت هذه الحزمة من برامج التنمية نجاحين أساسيين: نجاح في إصلاح الميزانيات المالية للدول ونجاح أكبر في زيادة الأغنياء غني والفقراء فقراً، وفي بعض الحالات كان هذا النجاح مبكياً حقاً، ففي بلد مثل بيرو إلغاء الدعم عن مياه الشرب النقية، فاضطر الفقراء إلى شرب المياه الملوثة واستخدام مياه المجاري فانتشرت في البلد أوبئة كانت قد اندثرت منه منذ زمن مثل الكوليرا والجدري وغيرهما.
وهكذا راحت بلدان أمريكا اللاتينية في الفترة الأخيرة تنفض عن كاهلها هذا الإصلاح الرأسمالي المهلك بلدا بعد الآخر.
من حسن حظهم بالطبع أنهم يتفوقون علينا بوجود انتخابات ديمقراطية حقيقية تسمح بتداول السلطة، وقد عادت الآن أحزاب يسارية واشتراكية لتولي الحكم في البرازيل وفنزويلا وبوليفيا، وأخيرا في شيلي وهم يكتشفون بمجرد تولي الحكم أن الخطوة الأولي هي تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي عن الولايات المتحدة، وأن ترجع الدولة إلى ممارسة دورها في حياة المجتمع بالتنمية المستقلة المستندة إلى قطاع عام قوي وسياسات اشتراكية وبالتعاون بطبيعة الحال مع رأسمالية وطنية كما كان عبدالناصر يسميها، لا رأسمالية تابعة، وآخر هؤلاء الحكام الاشتراكيين هي رئيسة شيلي ميشيل باشليه، وهي ابنة أحد جنرالات الليندي الذي مات في السجن نتيجة التعذيب، كما اعتقلت هي نفسها وعذبت أيام حكم بينوشيه دخلت الانتخابات ممثلة لحزبها الاشتراكي ـحزب اللينديـ فهزمت منافسها الملياردير المحافظ.
في بعض الأحيان يعرف التاريخ العدل والإنصاف! ويتوجه الحكام من هذه البلدان اللاتينية المتحررة إلى زيارة كوبا وزعيمها كاسترو، لا أظن أنهم يسألونه كيف يطبقون في بلدانهم نظامه الماركسي الصارم الذي تجاوزه الزمن الآن ولكنهم يسألونه بالتأكيد كيف صمد قرابة نصف قرن أمام حصار الولايات المتحدة الاقتصادي لبلده الصغير، وكيف تغلب على غزوها العسكري ومؤامراتها التي لم تنته طوال هذه العقود للإطاحة بحكمه.
لقد اكتشفوا أن نقطة البدء للبلدان الفقيرة والمستعبدة، مثلما توصل ناصر قبل نصف قرن من الزمان أيضا هي الاستقلال الوطني ورفض التبعية وحشد التأييد الشعبي، وبعد ذلك فلابد أن يأتي كما يتلو النهار الليل للتنمية المستقلة والعدل الاجتماعي وكرامة المواطنين والوطن.
لكن بينما تستنجد البلدان التي اكتوت بنيران الإصلاح الرأسمالي بهذا الطريق نلهث نحن وراء الخصخصة وإلغاء القطاع العام والدعم وحكم رجال الأعمال، نذهب إلى الحج والناس راجعون!
وأود أن أشير بهذه المناسبة إلى أنني أقرأ الآن كتاباً مهماً بعنوان «النظام القوي والدولة الضعيفة» من تأليف الدكتور سامر سليمان، وهو تعريب لدراسة علمية حصل بها الباحث على درجة الدكتوراة من معهد العلوم السياسية في باريس عام 2004 والكتاب الذي يتناول كما جاء في عنوانه الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك غني بالمعلومات والاستنتاجات الجديرة بالنظر.
ولا يكن الكاتب ذرة من التعاطف مع ناصر ونظامه الشعبوي والاستبدادي.. إلخ.
ومن حق الدكتور سامر بالطبع أن يري ما يشاء، ومن حقي ككاتب عاش التجربة أن اختلف معه تماما كما بينت فيما سبق لكن الغريب أني وجدت الكتاب في مجمله دفاعا بليغاً عن التجربة الناصرية دون قصد بالطبع، فمن الواضح أن الكاتب يتبني فكرة التنمية الرأسمالية وهو يتحدث عن تعثر هذه التنمية في الفترة الأخيرة حتى تحولت مصر على قوله إلى متسول دولي للمعونات الأجنبية ويعزو هذا التعثر إلى فشل سياسات الحكم في التلاؤم مع مقتضيات التنمية الرأسمالية، لكني أسأل، بكل احترام، ألا يجوز أن هذه التنمية لا تصلح أصلا لبلد فقير مثل مصر؟ ألن تكون تكلفتها الاجتماعية والسياسية أفدح بكثير عندنا مما عانته منها أمريكا اللاتينية الغنية بمواردها الطبيعية؟.
والسؤال الأهم الذي حاولت كل هذه الشهادات أن تثبته أليس صحيحا أن التجربة التي طبقها ناصر هي التجربة الوحيدة التي نجحت في تحقيق شيء ايجابي لهذا الوطن؟ أو ليس صحيحا أيضا ـ على ضوء تجارب الأمم ـ أنها هي الخطة الوحيدة التي تصلح للخروج بنا من أزمتنا إذا ما لاءمنا بينها وبين متغيرات العصر؟ كأني أريد أن أقول إن «الناصرية هي الحل» بالطبع أريد.
هي الحل الدنيوي لمشاكلنا الدنيوية، وأكاد أقول إننا سنصل إلى هذه النتيجة حتما طال الزمن أو قصر حتى ولو لم نفعل شيئا ليس أمامنا طريق آخر يكفل لنا الاستقلال والعدل والكرامة، الفرق الوحيد هو أننا يمكن أن نصل إلى هذا الطريق بعد متاهات وحلول وهمية وتجارب مريرة، أو يمكن أن نختصره بعمل دؤوب ينجح فيه من يحملون رسالة ناصر في توحيد صفوفهم وتحديد أهدافهم للمستقبل بشكل واقعي، والعمل وسط الجماهير التي تحتضن الحلم الناصري في ضميرها وتحتاج إلى تجسيده، لابد أن تقتنع بإخلاص من يخاطبها وباستعداده للتضحية من أجلها ومن أجل المبادئ.
فما أشق ما يلزم من جهد وعمل.. وما أجدر ناصر الآن بمن يرفعون رأيته!.
__________________________________
بهاء طاهر : 16 يناير 2011
Comments