(( نظرات موجزة في مسألة الحديث الصحيح عند الفقهاء والأصوليين ))
أ.د./محمود عبد الرحمن
أولا: مدار الصحيح بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي :
العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر من الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا.
وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا ولا معللا
وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء،
فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث
لا تجري على أصول الفقهاء، وبمقتضى ذلك حُدّ الحديث الصحيح بأنه: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا.
قال ابن دقيق العيد: ولو قيل في هذا: الحديث الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسنا؛
لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف ومن شرط الحد أن يكون جامعا مانعا.
(انظر: الاقتراح في بيان الاصطلاح (1 / 5).
وانظر: التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث للإمام محي الدين النووي ( ص 25)،
والمقنع في علوم الحديث لابن الملقن (1 / 41)،
والمختصر في علم الأثر للإمام محمد بن سليمان الكافيجي ( ص 158).
ثانيا:
قد يصح الحديث سندا لكنه لا يصح متنا كما يقول الفقهاء والأصوليون
أو يكون به علة خفية مع أن ظاهره السلامة منها كما يقول المحققون من المحدثين،
قد يصح ويكون منسوخا،
أو معارضا بما هو أقوى منه،
أو مصادما للقواعد العامة في الشريعة
أو الخاصة بباب من الأبواب القارة عند من رده،
أو يكون واقعة عين أو حال،
وقد يضعف ويكون صحيح المعنى؛
إما
لأن المعنى قد ورد فيه صحاح غيره،
أو تأيد بموافقة القواعد،
أو تأيد بحس أو عقل أو غير ذلك،
لكنهم قد يوردونه لكونه أصرحها
أو اعتمادا على تواتر معنوي علم باستقراء أحكام الشريعة.
ثالثا:
لا يقال إن الأصوليين والفقهاء يعملون بالضعيف؛
لأن الحديث الصحيح له معنى عندهم يختلف عن معناه عند متأخري المحدثين،
وكذلك ينبغي أن يكون على بال أن المذاهب الفقهية تكونت واستقرت أدلتها قبل تدوين معظم كتب الحديث المتداولة كالبخاري ومسلم وغيره،
وكثير من هذه الأدلة عليه عمل الأمة، وإن ضعف على طريقة متأخري المحدثين،
فهو غير ضعيف عند عامة فقهاء الأمة، ومثل هذا لا يخضع للضوابط الموضوعة بعد ذلك،
لأن هذه القواعد إنما يتحاكم إليها بالنسبة للأحاديث التي لم يعلم حالها، ولم ينكشف أمرها من الأحاديث.
وعدم إدراك هذا الفارق
أوقع كثيرا من الجرءاء على نقد الأصوليين والفقهاء واتهامهم بالعمل بالضعيف أو الموضوع.
ومن هنا فلا بد من تجلية هذه القضية
ببيان معنى الحديث الصحيح عند المحدثين
ومعناه عند الأصوليين والفقهاء،
فالحديث الصحيح بالمعنى الأخص
عند المتأخرين من حوالي زمن البخاري ومسلم
هو: ما رواه العدل الحافظ عن مثله من غير شذوذ ولا علة.
وبالمعنى الأعم
عند المتقدمين من المحدثين وجميع الفقهاء والأصوليين
هو: المعمول به،
فإذا قال المحدث من المتأخرين هذا حديث غير صحيح، فإنما نفى معناه الأخص باصطلاحه، فلا ينفي الأعم،
وحينئذ فيحتمل أن الحديث حسن أو ضعيف أو غير معمول به،
فيجب حينئذ البحث عن الحديث،
فإن كان حسنا أو ضعيفا معمولا به كان مقبولا؛
وإن كان ضعيفا غير معمول به كان غير مقبول،
ولا ترد أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمجرد القول المحتمل. نقله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عن الشيخ صالح بن مهدي المقبلي اليمني، في ملحق كتاب الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للكنوي ص 233.
وقد قال الإمام الشافعي في الأم (4 / 1066):
ثم ما لم أعلم أهل العلم اختلفوا فيه أن الديْن مبدأ على الوصايا والميراث، فكان حكم الديْن كما وصفت منفردا مقدما، وفي قول الله عز وجل: " أو دين " ثم إجماع المسلمين أن لا وصية ولا ميراث إلا بعد الدين
دليل على أن كل دين في صحة كان أو في مرض بإقرار، أو بينة، أو أي وجه ما كان سواء؛ لأن الله عز وجل لم يخص دينا دون دين.
(قال الشافعي):
وقد روي في تبدئة الدين قبل الوصية حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت أهل الحديث مثله أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية».
وقال في الرسالة ( ص 1399):
وروى بعض الشاميين حديثا ليس مما يثبته أهل الحديث، فيه: أن بعض رجاله مجهولون،
فرويناه عن النبي منقطعا.
وإنما قبلناه بما وصفت من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كنا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديث أهل المغازي عاما وإجماع الناس.
أخبرنا "سفيان" عن "سليمان الأحول" عن "مجاهد"، أن رسول الله قال: "لا وصية لوارث"،
فاستدللنا بما وصفت، من نقل عامة أهل المغازي عن النبي أن: " لا وصية لوارث "، على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المنقطع عن النبي، وإجماع العامة على القول به في حديث " لا وصية لوارث".
ومن الأحاديث المتلقاة بالقبول والعمل_وإن كانت ضعيفة على اصطلاح بعضهم_
حديث: «من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض»
أخرجه الترمذي ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح إسناده» والعمل عند أهل العلم عليه، وبه يقول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (بتصرف).
وقد صرح العلماء أن الشهرة والعمل تغني عن إيراد الأسانيد للأحاديث التي لم تسلم من المقال.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1 / 1622) فيما ورد عن الصحابة في عقوبة شرب الخمر من ضرب خالد ثمانين، وضرب عمر ثمانين،
قال: وكان عمر
إذا أتي بالرجل القوي المنتهك في الشراب ضربه ثمانين،
وإذا أتي بالرجل الذي كان منه الزلة الضعيف ضربه أربعين، وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين،
وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضا، وشهرتها تغني عن إسنادها.
قال الخطيب البغدادي عن حديث معاذ المشهور لما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن:
إن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم،
كما وقفنا على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وصية لوارث»،
وقوله في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»،
وقوله: «إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع»،
وقوله: «الدية على العاقلة»،
وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد،
ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها،
فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد له. (الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1 / 473).
ونقل الشيخ أبو غدة عن الشيخ محمد أنور شاه الكشميري – بعد أن وصفه بإمام العصر - من كتابه: فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 409) عند ترجمة البخاري باب "لا وصية لوارث" (صحيح البخاري (4 / 4)
أنه قال: "وهذا الحديث ضعيف بالاتفاق مع ثبوت حكمه بالإجماع، ولذا أخرجه المصنف في ترجمته، فإنه لا يخرج مثله؛ وبحث فيه ابن القطان أن الحديث الضعيف إذا انعقد عليه الإجماع هل ينقلب صحيحا أو لا؟.
والمشهور الآن عند المحدثين أنه يبقى على حاله،
والعمدة عندهم في هذا الباب هو حال الإسناد فقط،
فلا يحكمون بالصحة على حديث في إسناده راو ضعيف.
وذهب بعضهم إلى أن
الحديث إذا تأيد بالعمل ارتقى من حال الضعف إلى مرتبة القبول،
وهو الأوجه عندي، وإن كبُر على المشغوفين بالإسناد،
فإني قد بلوت حالهم في تجازفِهم وتسامجِهم وتماكسِهِم بهذا الباب أيضا، واعتبار الواقع عندي أولى من المشي على القواعد،
وإنما القواعد للفصل فيما لم ينكشف أمره من الخارج على وجهه، فاتباع الواقع أولى والتمسك به أحرى".
ووضح الشيخ محمد يوسف البنوري تلميذ الشيخ محمد أنور كلامه،
فقال: إن الشيخ الأنور كان يقول: "كان الإسناد لئلا يُدْخَل في الدين ما ليس منه، لا ليخرج من الدين ما ثبت منه من عمل أهل الإسناد"
(انظر: الملحق المعنون بوجوب العمل بالحديث الضعيف إذا تلقاه الناس بالقبول للشيخ أبي غدة لكتاب الأجوبة الفاضلة للشيخ محمد عبد الحي اللكنوي (ص 237، 238) ( باختصار وانتقاء).
وأود التأكيد على أن غياب مثل هذه التحقيقات أوقع طلاب العلم في حيرة كبيرة وأغرى أهل الجفاء والغباء بالوقوع في أعراض العلماء الأماجد واتهامهم بالجهل بعلم الحديث وبناء القواعد والأحكام في كتب الأصول والقواعد الفقهية وكتب الفروع على أحاديث ضعيفة وواهية.
كتبه :
أ.د./محمود عبد الرحمن_حفظه الله_
أستاذ ورئيس قسم أصول الفقه بجامعة الأزهر
Comments