القائمة الرئيسية

الصفحات


يسوع المسيح كاهن الهيكل
قراءة جديدة للكتاب المقدس
نبيـل الكرخي 

أمرت التوراة أن يتولى سبط لاوي من بين أسباط بني إسرائيل خدمة خيمة الاجتماع مسكن الشهادة) ومن ثم هيكل سليمان) ، وان يكون الكهنة من ذرية هارون بالتحديد .
      وحدث في زمن موسى أن انتشر الفساد بين بني إسرائيل وشاع زنى بني إسرائيل مع بنات قبيلة موآب فسجدوا لآلهتهن وعبدوا إلههم بعل فغور ، فنهاهم الرب عن ذلك فلم ينتهوا حتى انتفض فينحاس بن العازار بن هارون الكاهن وقتل زمري ابن سالور وهو من زعماء سبط شمعون عندما كان يزني مع كزبى بنت صور وأبوها من زعماء مديان وقد قتلها فينحاس أيضا . فرضي الرب عن فينحاس وكافأه فقال لموسى : (ها انذا أعطيه ميثاقي ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت ابدي لأجل انه غار لله وكفر عن بني إسرائيل) ، وهكذا انحصر منصب الكاهن في ذرية فينحاس بن العازار بن هارون.
ويتفق المسيحيون مع المسلمين في ان يسوع المسيح ولد من غير أبٍ ولادة معجزة حيث حملت به أمه الطاهرة مريم العذراء بمشيئة الله القادر على كل شيء ، ووردت تسميته (ابن مريم) في الديانتين المذكورتين .
      وقد ورد في الأناجيل أن اليزابيث (اليصابات) زوجة زكريا هي من أقارب مريم العذراء ، وبما أن اليزابيث هي من ذرية هارون الكاهن ، فتكون مريم العذراء هي من ذرية هارون أيضا ، أي أن يسوع المسيح يعود في نسبه الى هارون أول كهنة بني إسرائيل ، وبذلك نفهم أن ليسوع المسيح إضافة لوظيفته النبوية وظيفة كهنوتية أيضا باعتباره آخر كهنة الهيكل من ذرية هارون الكاهن.
     ونسب مريم العذراء الى هارون أخي موسى يكشف لنا عن تفسير إحدى آيات القرآن المجيد وهي ما جاء بالقرآن المجيد (19 : 27) في الخطاب لمريم العذراء : ((يا أخت هارون)) ، وهذا ما يؤكد إنها من نسل هارون لان القرآن الكريم قد نزل بلغة العرب ، والعرب كانت إذا خاطبت شخصا عربيا تقول له : (يا أخا العرب) ، وللهاشمي : (يا أخا هاشم) ، ومثل هذه الشواهد في القرآن الكريم ما جاء في (26 : 105و106) قوله تعالى : ((كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون )) وفي (26 : 123و124) قوله تعالى : ((كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون )) ، فيكون المقصود من خطاب مريم العذراء ((يا أخت هارون)) إنها من ذرية هارون أخي موسى كما أسلفنا ، وقد ذهب الى هذا التفسير أيضا الشيخ موسى السوداني رحمه الله في كتابه  (البرهان لعلوم القرآن) ج1 ص302.
     إذن فالمسيح عليه السلام هو من نسل هارون النبي عليه السلام وهو من سلالة كهنة الهيكل ، فكان هو الكاهن الشرعي المنصوب من قبل الله تعالى ، وهذا أحد أسباب رفض اليهود وكهنتهم له لأن دعوته ووجوده فيه تهديد لمصالحهم الدنيوية.

إنَّ إعلان المسيح كاهنا للهيكل هو السبب في ذهاب يسوع المسيح للهيكل ، فقلب مناضد الصيارفة وكراسي باعة الحمام وطرد الباعة من الهيكل ولم يدع أحد يجتاز الهيكل بمتاع كما في إنجيل مرقس (11 : 15 و16) لانه هو كاهن الهيكل والمسؤول عنه ، فللمسيح وظيفة كهنوتية إضافة لوظيفته النبوية كما اسلفنا.
وقد بين المسيح لأنصاره حقيقة نسبه بلا شك ، وفي إنجيل متى (22 : 41 ـ 46) نقرأ : (وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلا : ماذا تظنون في المسيح ، ابن من هو قالوا له: ابن داود ، قال لهم : فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا : قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك ، فان كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه ؟! فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة ، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة ) ، فالمسيح كان يعلمهم أنه ليس من ذرية داود ، وأنه آخر كهنة الهيكل ، حيث قد ذكرنا في مقال سابق حول نسب المسيح أنه بعد ولادة يسوع المسيح ولادته المعجزة من غير أب ، بدأ يوسف النجار يشرف على تربيته وتنشأته ورعايته حتى بلغ مرحلة الشباب لأن أمر الولادة المعجزة ليسوع المسيح ظل خافيا على معظم اليهود بسبب محاولة الحاكم الروماني هيرودس قتل يسوع بعد ولادته وهرب أمه مريم به مع يوسف النجار ـ لا سيما وقد تكتم على أمر تكلم المسيح في المهد من حضر الحادثة من اليهود خوفاً من الإضطهاد ـ لذلك نشأ وترعرع واليهود يظنونه ابن يوسف النجار من سبط يهوذا لان يوسف النجار كان من سبط يهوذا .
      وعندما بدأت الوظيفة النبوية ليسوع المسيح ، اخذ الكثير من عامة اليهود يدعونه بلقب (ابن داود) ، وقد ورد ذلك في الأناجيل الأربعة بكثرة ، ولا نستبعد أن بعض هذه المواضع مكذوبة لان هناك من كان يرى مصلحة في إطلاق لقب (ابن داود) على يسوع المسيح لا سيما بولس واتباعه.
وهذا النص الذي ذكره إنجيل متى فيه إشارة لما ورد في المزامير (110 : 1-7) : (قال الرب لربي اجلس على يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك يرسل الرب قضيب عزك من صهيون ، تسلّط في وسط أعدائك ، شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طلّ حداثتك .اقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ، الرب عن يمينك يحطم في يوم غضبه ملوكا ، يدين بين الأمم ، ملأ جثثاً أرضاً واسعة سحق رؤوسها من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع الرأس ) ، وقد يقصد بقوله ( إلى الأبد ) الاستغراق في الزمن ، أي فترة طويلة ، وهو أي يسوع المسيح آخر الكهنة من سبط لاوي من ذرية هارون ، ويقصد بقوله ( على رتبة ملكي صادق ) ، هو أن ملكي صادق المذكور في تكوين (14 : 18) كان كاهنا وهو يمثل نهاية مرحلة تاريخية ( مرحلة ما بعد الطوفان ) وبداية مرحلة أخرى هي مرحلة الوعد الإلهي لإبراهيم وذريته ( بنو إسرائيل ) ، واما يسوع المسيح وهو كاهن أيضاً فهو يمثل نهاية مرحلة تاريخية ( مرحلة الوعد لبني إسرائيل ) وبداية مرحلة جديدة تمثلت بظهور النبي العربي الصادق الأمين محمد(صلى الله عليه وآله) من جبل فاران كما في سفر حبقوق (3 :3) وكما في سفر التثنية (33 : 2) ونبوءة اشعياء (21 : 13) ، الصادق الأمين الذي ذكره يوحنا اللاهوتي في رؤياه (19 : 11).
   وإذا كان ملكي صادق قد التقى إبراهيم في بداية المرحلة التاريخية تلك فان يسوع المسيح قد التقى النبي العربي محمد (صلى الله عليه وآله) في بداية المرحلة التاريخية الجديدة في أورشليم في بيت المقدس عند الإسراء بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) وإذا كان يسوع قد دخل أورشليم علانية بقافلة تتقدمها مجموعة من المؤمنين به وبالهتاف له ـ كما في إنجيل متى (21 : 7 ـ 11) ـ فان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) قد دخل أورشليم بصورة فجائية وغير متوقعة أي (بغتة) كما ذكرت نبوءة ملاخي (3 : 1) : (ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه ) فمرتبة ملكي صادق أذن هي نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى ، وكذلك كانت مرتبة يسوع المسيح الذي أنتهت مرحلته بظهور الإسلام ، وأنتقال القبلة إلى أورشليم الجديدة المذكورة في رؤيا يوحنا اللاهوتي (16:21) وهي مكعبة الشكل (الطول والعرض والأرتفاع متساوية) في مكة المكرّمة.

  تحتوي على أحكام عهد جديد تحدد عباراته العلاقات بين الله وشعبه في المرحلة الأخيرة من تاريخ الخلاص . وأدى بالمسيحيين كلامهم على عهد جديد إلى إطلاق عبارة " العهد القديم " على المجموعة التي كانت في الماضي تسمى " الشريعة والأنبياء " فأشاروا بذلك إلى أنهم يرون في تلك المجموعة قبل كل شئ ما فيها من أحكام العهد الموسوي القديم الذي جدده يسوع وتخطاه . إن تأليف تلك الأسفار السبعة والعشرين وضمها في مجموعة واحدة أديا إلى تطوير طويل معقد . والفجوة التاريخية والجغرافية والثقافية التي تفصلنا عن عالم العهد الجديد هي عقبة دون حسن التفهم لذلك الأدب . فلا بد لنا اليوم من النظر إليه في البيئة التي نشأ فيها وإلى انتشاره في أول أمره . فلا غنى لكل مدخل إلى العهد الجديد ، مهما كان مختصرا ، عن البحث في الأحوال التي حملت المسيحيين الأولين على إعداد مجموعة جديدة لأسفار مقدسة . ولا غنى بعد ذلك عن البحث كيف أن تلك النصوص ، وقد نسخت ثم نسخت مرارا ومن غير انقطاع ، أمكنها أن تجتاز نحو أربعة عشر قرنا من التاريخ الحافل بالأحداث التي مضت بين تأليفها من جهة وضبطها على وجه شبه ثابت عند اختراع الطباعة من جهة أخرى . ولا غنى له في الوقت نفسه عن أن يشرح كيف يمكن ضبط النص بعد ما طرأ عليه من اختلاف في الروايات في أثناء النسخ . وفي المدخل آخر الأمر محاولة لوصف على أحسن وجه ممكن للبيئة التاريخية والدينية والثقافية التي نشأ فيها العهد الجديد ثم انتشر . وقد جرت العادة أن يقال لهذه المظاهر الثلاثة : مسألة القانون ، ومسألة النص ومسألة البيئة لنشأة العهد الجديد .

[ قانون العهد الجديد ]

إن كلمة " قانون " اليونانية ، مثل كلمة " قاعدة " العربية ، قابلة لمعنى مجازي يراد به قاعدة للسلوك أو قاعدة للإيمان . وقد استعملت هنا للدلالة على جدول رسمي للأسفار التي تعدها الكنيسة ملزمة للحياة والإيمان . ولم تندرج هذه الكلمة بهذا المعنى في الأدب المسيحي إلا منذ القرن الرابع . وقد يسأل المرء نفسه ما الذي دعا المسيحيين الأولين إلى أن يفكروا في إحداث مجموعة جديدة لأسفار مقدسة ، ثم في تحقيق تلك المجموعة ، لتكمل المجموعة التي يقال لها الشريعة والأنبياء . ويمكن إيجاز هذا التطور على هذا الوجه : كانت السلطة العليا في أمور الدين تتمثل عند مسيحيي الجيل الأول في مرجعين ، أولهما العهد القديم وكان الكتبة المسيحيون الأولون يستشهدون بجميع أجزائه على وجه التقريب استشهادهم بوحي الله . وأما المرجع الآخر الذي نما نموا سريعا فقد أجمعوا على تسميته " الرب " . وكان يطلق هذا الاسم على كل من التعليم الذي ألقاه يسوع ( 1 قور 9 / 14 ) وسلطة ذلك الذي قام من بين الأموات وتكلم بلسان الرسل ( 2 قور 10 / 8 و 18 ) . وكان لهذين المرجعين قيمة القياس في أمور الدين ، ولكن العهد القديم كان يتألف وحده يتألف من نصوص مكتوبة . وأما أقوال الرب وما كان يبشر به الرسل ، فقد تناقلتها ألسنة الحفاظ مدة طويلة ولم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة كل من تدوين أهم ما علمه الرسل وتولي حفظ ما كتبوه . وما كان بد من أن تثار ذات يوم مسألة المكانة العائدة لهذه المؤلفات الجديدة ، وأن حظي في أول الأمر التقليد الشفهي بمكانة أفضل كثيرا مما كان للوثائق المكتوبة . ويبدو أن المسيحيين ، حتى ما يقرب من السنة 150 ، تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلا جدا إلى الشروع في أثناء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة ، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس واستعملوها في حياتهم الكنسية . ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقا بالكتاب المقدس ، بل كانوا يدعون الأحداث توجههم : فقد كانت الوثائق البولسية مكتوبة في حين إن التقليد الإنجيلي كان لا يزال في معظمه متناقلا على ألسنة الحفاظ ، فضلا عن أن بولس نفسه كان قد أوصى بتلاوة رسائله وتداولها بين الكنائس المتجاورة ( 1 تس 5 / 27 وقول 4 / 16 ) . ومهما يكن من أمر ، فإن كثيرا من المؤلفين المسيحيين أشاروا منذ أول القرن الثاني إلى أنهم يعرفون عددا كبيرا من رسائل كتبها بولس ، فيمكننا أن نستنتج من ذلك أنه أقيمت من غير إبطاء مجموعة من هذه الرسائل وأنها انتشرت انتشارا واسعا سريعا ، لما كان للرسول من الشهرة . ومع ما كان لتلك النصوص من الشأن ، فليس هناك قبل أول القرن الثاني ( 2 بط 3 / 16 ) أي شهادة تثبت أن هذه النصوص كانت تعد أسفارا مقدسة لها من الشأن ما للكتاب المقدس . ولا يظهر شأن الأناجيل طوال هذه المدة ظهورا واضحا ، كما يظهر شأن رسائل بولس . أجل لم تخل مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين من شواهد مأخوذة من الأناجيل أو تلمح إليها ، ولكنه يكاد أن يكون من العسير كل مرة الجزم هل الشواهد مأخوذة من نصوص مكتوبة كانت بين أيدي هؤلاء الكتبة أم هل اكتفوا باستذكار أجزاء من التقليد الشفهي . ومهما يكن من أمر ، فليس هناك قبل السنة 140 أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة ، ولا يذكر أن لمؤلف من تلك المؤلفات صفة ما يلزم . فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني شهادات ازدادت وضوحا على مر الزمن بأن هناك مجموعة من الأناجيل وأن لها صفة ما يلزم ، وقد جرى الاعتراف بتلك الصفة على نحو تدرجي . وابتدأ نحو السنة 150 عهد حاسم لتكوين قانون العهد الجديد . وكان الشهيد يستينس أول من ذكر أن المسيحيين يقرأون الأناجيل في اجتماعات الأحد وأنهم يعدونها مؤلفات الرسل ( أو أقله مؤلفات أشخاص يتصلون بالرسل صلة وثيقة ) وأنهم هم يستعملونها يولونها منزلة كمنزلة الكتاب المقدس . وإذا أوليت هذه المؤلفات تلك المنزلة الرفيعة ، فيبدو أن الأمر لا يعود أولا إلى أصلها الرسولي ، بل لأنها تروي خبر " الرب " ، وفقا للتقليد المتناقل . ولكن سرعان ما شدد على نسبة هذه المؤلفات إلى الرسل ، وعلى الخصوص لما مست الحاجة إلى حمايتها من تكاثر المؤلفات الشبيهة بها في ظاهرها ، في حين أن محتواها يعود في معظمه إلى تقليد سخيف ، بل إلى ما ينسجه الخيال في حال الهذيان . وكان بعد السنة 150 بقليل أن مست الحاجة في الكنيسة إلى قاعدة شاملة ، فاتجهت الأنظار إلى مجموعة الأناجيل الأربعة لأنها نالت ، حتى ذلك الوقت ، انتباه الناس ، لما تحللت به من الصفات ولصحة الشهادة التي تؤديها " للرب " . وكان تفوق الأسفار الأربعة عظيما جدا من جهات كثيرة ، حتى أنها حجبت بسرعة مجمل المؤلفات المماثلة . فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة 170 بمقام الأدب القانوني ، وإن لم تستعمل تلك اللفظة حتى ذلك الحين . أما رسائل بولس فيكاد أن يكون من الأكيد أنها لم تدخل إلى القانون الواحدة بعد الأخرى ، بل إن مجموعتها أدخلت إليه برمتها يوم أخذ يغلب في الكنيسة الرأي القائل بأنه لا بد من الحصول على قانون للعهد الجديد . والراجح أن النسبة إلى الرسل ، وقد جعلوها من قبل الصفة التي تتميز بها المؤلفات الإنجيلية ، كان لها نصيب أكبر في إعلاء شأن ما كتب بولس ، وقد أخذ يظهر رويدا رويدا وبالمصادفة بمظهر مجموعة اعترفت بصفتها الالزامية كنائس القرن الثاني اعترافا واسعا . ويظهر هكذا نشوء مبدأ قانون جديد لأسفار مقدسة ، غير أن هذا المبدأ لم يناقش قط . فقيام القانون هذا أمر حدث ثم انتشر انتشارا سريعا في الكنيسة حتى عمها . ولم يتدخل التفكير اللاهوتي إلا بعد ذلك ، لما وجب تحديد ما يحتويه القانون . ويرجح كثيرا أن الذي زاد في سرعة هذه الحركة هو تدخل مرقيون ( + 160 ) الهرطوقي الذي نبذ سلطة العهد القديم نبذا تاما ، فاحتاج أشد الحاجة إلى تزويد كنيسته بأسفار مقدسة وبما يقتضيه ذلك من قانون جديد . وهكذا ساهم أتباع مرقيون إلى حد ما في نشر مبدأ القانون الجديد ، هذا وقد اتفق على أنه مؤلف من قسمين : الإنجيل والرسل ، كما أن القانون القديم كان هو أيضا مؤلفا من قسمين : الشريعة والأنبياء . فالرأي القائل بقاعدة جديدة للكتاب المقدس رأي راسخ في الكنيسة منذ أواخر القرن الثاني ، ولكن بقي أن يوضح محتوى القانون الجديد . ولم يوضح الجدول التام للمؤلفات العائدة إلى القانون إلا على نحو تدرجي ، وكلما تحقق شئ من الاتفاق ، بفضل الشعور النامي في الكنيسة بوحدتها ، وبفضل نمو العلاقات بين مختلف جماعات المسيحيين . فهكذا يجدر بالذكر ما جرى بين السنة 150 والسنة 200 ، إذ حدد على نحو تدرجي أن سفر أعمال الرسل مؤلف قانوني ، وقد عده في أواخر القرن الثاني إيريناوس ، أسقف مدينة ليون ، سفرا مقدسا واستشهد به على أنه شهادة لوقا في كلامه على الرسل . ولا بد من القول أن سفر أعمال الرسل ضم إلى القانون خصوصا للصلة التي يمت بها إلى الإنجيل الثالث ، فهو مؤلف تابع لذلك الإنجيل . وكان نمو المسيحيين في التنبه لما لسلطة الرسل من شأن ، طوال القرن الثاني ، هو أيضا عاملا مهما على ضم مؤلف عد من غير إبطاء مقدمة لا يستغنى عنها لمجمل الرسائل . فإذا حاول المرء أن يستعرض حصيلة هذا التطور ، اتضحت له هذه الأمور : فازت الأناجيل الأربعة في كل مكان بمنزلة منيعة لا نزاع عليها البتة من بعد ، ويمكن منذ ذلك الوقت أن قانون الأناجيل قد اكتمل ، وأما القسم الآخر من القانون ( وهو أسفار الرسل ) فقد استشهد في كل مكان برسائل بولس الثلاث عشرة وبسفر أعمال الرسل وبرسالة بطرس الأولى كما يستشهد بالكتاب المقدس . وقد حصل شئ من الإجماع على رسالة يوحنا الأولى . فقد تجاوزت الصيغة الأخيرة للقانون مرحلة النشوء . ولكن ما زال هناك شئ من التردد في بعض الأمور . فإلى جانب مؤلفات فيها من الوضوح الباطني ما جعل الكنيسة تتقبلها تقبلها لما لا بد منه ، هناك عدد كبير من المؤلفات " الحائرة " يذكرها بعض الآباء ذكرهم لأسفار قانونية ، في حين أن غيرهم ينظر إليها نظرته إلى مطالعة مفيدة . ذلك شأن الرسالة إلى العبرانيين ورسالة بطرس الثانية وكل من رسالة يعقوب ويهوذا . وهناك أيضا مؤلفات جرت العادة أن يستشهد بها في ذلك الوقت على أنها من الكتاب المقدس ، ومن ثم جزء من القانون ، لم تبق زمنا على تلك الحال ، بل أخرجت آخر الأمر من القانون . ذلك ما جرى لمؤلف هرماس وعنوانه " الراعي " وللديداكي ورسالة اقليمنضس الأولى ورسالة برنابا ورؤيا بطرس . ويبدو أن مقياس نسبة المؤلف إلى الرسل استعمل استعمالا كبيرا ، ففقد رويدا رويدا كل مؤلف لم تثبت نسبته إلى رسول من الرسل ما كان له من الحظوة . فالأسفار التي ظلت مشكوكا في صحتها ، حتى القرن الثالث ، هي تلك الأسفار نفسها التي قام نزاع على صحة نسبتها إلى الرسل في هذا الجانب أو ذلك من الكنيسة . وكانت الرسالة إلى العبرانيين والرؤيا موضوع أشد المنازعات . وقد أنكرت صحة نسبتهما إلى الرسل إنكارا شديدا مدة طويلة . فأنكرت في الغرب صحة الرسالة إلى العبرانيين وفي الشرق صحة الرؤيا . ولم تقبل من جهة أخرى إلا ببطء رسالتا يوحنا الثانية والثالثة ورسالة بطرس الثانية ورسالة يهوذا . ولا حاجة إلى أن نتتبع تتبعا مفصلا جميع مراحل هذا التطور الذي أدى خلال القرن الرابع إلى تأليف قانون هو في مجمله القانون بعينه الذي نعرفه اليوم ، ما عدا التردد في ترتيب الأسفار في القانون . وأن الاهتمام بالوحدة في الكنيسة ، وقد ازداد فيها يوما بعد يوم الإقرار بحق الصدارة لسلطة كنيسة رومة ، قد ساهم مساهمة غير قليلة في تخفيف ما ظهر من الخلافات في هذه المرحلة أو تلك من التطور الذي رافق تأليف القانون .

[ أسفار العهد الجديد المنحولة ]

إن الأسفار التي اعترف بأنها قانونية أصبحت بناء على ذلك نصوصا مقدسة وحصلت منذ دخولها في القانون بنوع من الحصانة ساعدت في وصولها إلى عهد الطباعة وهي في حالة حسنة . ولم تحظ بمثل ذلك المؤلفات التي لم يكتب لها أن تدخل في القانون . فإذا حظي بعضها ( كالديداكي أو رسالة برنابا ) بتقدير جميع الكنائس فحفظ في حالة حسنة ، مع أنه لم يدخل إلى القانون ، فإن بعضها الآخر ، الذي لم يتحل بتلك الصفات ، نحي تنحية أشد عن الاستعمال الكنسي ، فأصبح عرضة للضياع ، الأمر الذي يبين لماذا لم يبق منه سوى آثار قليلة . خصت بكلمة " منحولة " ( خفية باليونانية ) بعض المؤلفات التي كانت ، على ما فيها من الشبه بنصوص العهد الجديد القانونية ، تنقل في نظرهم آراء غريبة عن أفكار الكنيسة ، وعلى العموم سرية ، تعود إلى بيئة " متحزبة " كانت وحدها تستطيع التصرف بها للحصول منها على معرفة حقيقية ، أي " عرفان " . وعدت بعد مدة مؤلفات منحولة تلك التي أبت الكنيسة أن تبني عليها عقيدتها وإيمانها ، ولذلك لم تأذن بقراءتها في أثناء إقامة شعائر العبادة يوم الأحد . وقد أمر أن تبقى تلك الكتب مخفية في أثناء إقامة شعائر العبادة ، وأن أوصي في بعض الأحوال بأن يطالعها الناس فردا فردا لحسن تأثيرها في النفس . جرت العادة أن تفهم هذه الكلمة بذلك المعنى قبل أن تستعمل ، لما اكتمل القانون ، للدلالة على المؤلفات المنحولة إلى الرسل ، وقد اقترنت منذ ذلك الوقت كلمة " منحول " بمعنى الذم ، فغدت المؤلفات المنحولة وسائل نقل للضلال . والمؤلفات المنحولة إلى العهد الجديد ، مهما يكن من قيمتها عامة ، لا تزال مؤلفات ثمينة جدا لدرس تطور الآراء الدينية في القرنين الثاني والثالث . ويمكن المرء ، إذا لم يقصد الدقة في التعبير ، أن يميز ، ضمن الأدب المنحول ، أربع فئات من المؤلفات تشابه مختلف أصناف الأسفار القانونية . فهناك أناجيل وأعمال رسل ورسائل ورؤى منحولة ، ولن يذكر هنا سوى بعض تلك المؤلفات . ولا نعرف أناجيل النصارى والعبرانيين والمصريين إلا مما استشهد به منها آباء الكنيسة ، وهي ، على قدر ما يسعنا أن نحكم في ما ورد منها ، مؤلفات تمت بصلة قريبة إلى الأناجيل القانونية . وإنجيل بطرس ، الذي عثر على جزء منه في مصر في أواخر القرن الماضي ، يحتوي على آثار غنوصية ظهرت على وجه تام في مؤلفات تحسنت معرفتنا لها منذ أن عثر قبل قليل في مصر أيضا على أسفار كإنجيل الحق وإنجيل فيلبس وإنجيل توما ، علما بأن في الإنجيل هذا أمورا كثيرة مشتركة بينه والأناجيل الإزائية ، غير أن تلك المؤلفات تختلف اختلافا واضحا عن الأناجيل القانونية ، لأنها تكاد لا تحتوي رواية شئ من الأحداث . والمؤلف المعروف باسم إنجيل يعقوب يروي رواية مفصلة أناجيل الطفولة ويولي اهتماما خاصا بما جرى لمريم وبأحداث ميلاد يسوع . وأما أعمال الرسل المنحولة فهي على العموم مؤلفات غايتها القدوة الحسنة للشعب المسيحي ، تستوحي عن بعد ما ورد في سفر أعمال الرسل القانوني . وهي تتخير التوسع في جانب المعجزات من سيرة الرسل ، وهدفها أن تعظم شأنهم . ذلك هو الأثر الذي تتركه في نفس من يقرأ أعمال يوحنا وبولس وإندراوس . وإذا استثنينا أمر " رسالة الرسل " التي كتبت في نحو السنة 150 والتي هي أقرب إلى فن الرؤى ، فليس لنا إلا القليل نقوله في الرسائل المنحولة . ولا يمكن تشبيه هذه المؤلفات بالرسائل القانونية : فهي لا تشبه الرسائل ، بل هي أشبه بمقالات صغيرة يغلب عليها السخف . وأما الرؤى المنحولة فيمكن أولا ذكر " الراعي " لهرماس ثم رؤيا بطرس ( وهي تخيل للحياة المستقبلية والنعيم والجحيم ) ورؤيا بولس وفيها يزعم تفصيل الرؤيا الواردة في 2 قور 12 والتي خطف الرسول في أثنائها إلى السماء الثالثة . وضعت تلك المؤلفات كلها بعد الأسفار القانونية وهي في أغلب الأحيان تقليد لها ، ولا تحتوي على العموم أي تقليد تاريخي قديم ، فليست مرجعا ذا شأن لدرس العهد الجديد ، مهما يكن فيها من فائدة لتاريخ الفكر المسيحي في عهد لاحق .

[ نص العهد الجديد ]

بلغنا نص الأسفار السبعة والعشرين في عدد كبير من المخطوطات التي أنشئت في كثير من مختلف اللغات ، وهي محفوظة الآن في المكتبات في طول العالم وعرضه . وليس في هذه المخطوطات كتاب واحد بخط المؤلف نفسه ، بل هي كلها نسخ أو نسخ النسخ للكتب التي خطتها يد المؤلف نفسه أو أملاها إملاء . وجميع أسفار العهد الجديد ، من غير أن يستثنى واحد منها ، كتب باليونانية ، وهناك أكثر من خمسة آلاف كتاب خط بهذه اللغة ، أقدمها كتب على أوراق البردي وكتب سائرها على الرق . وليس لدينا على البردي سوى أجزاء من العهد الجديد بعضها صغير . وأقدم الكتب الخط ، التي تحتوي معظم العهد الجديد أو نصه الكامل ، كتابان مقدسان على الرق يعودان إلى القرن الرابع . وأجلهما " المجلد الفاتيكاني " ، سمي كذلك لأنه محفوظ في مكتبة الفاتيكان . وهذا المخطوط مجهول المصدر وقد أصيب بأضرار لسوء الحظ ولكنه يحتوي العهد الجديد ، ما عدا الرسالة إلى العبرانيين 9 / 14 - 13 / 25 والرسالتين الأولى والثانية إلى طيموتاوس والرسالة إلى طيطس والرسالة إلى فيلمون والرؤيا . والعهد الجديد كامل في الكتاب الخط الذي يقال له " المجلد السينائي " ، لأنه عثر عليه في دير القديسة كاترينا ، لا بل أضيف إلى العهد الجديد الرسالة إلى برنابا وجزء من " الراعي " لهرماس ، وهما مؤلفان لن يحفظا في قانون العهد الجديد في صيغته الأخيرة . والمجلد السينائي محفوظ اليوم في المتحف البريطاني في لندن . وكتب هذان المجلدان بخط جميل يقال له الخط الكبير الكتابي . وهما الأشهران بين نحو 250 كتبت على الرق بالخط نفسه أو بخط يشبهه قليلا أو كثيرا ، وتعود إلى عهد يمتد من القرن الثالث إلى القرن العاشر أو الحادي عشر . ومعظمها ، وعلى الخصوص أقدمها ، لا يحفظ إلا جزءا صغيرا جدا في بعض الأحيان من العهد الجديد . إن نسخ العهد الجديد التي وصلت إلينا ليست كلها واحدة ، بل يمكن المرء أن يرى فيها فوارق مختلفة الأهمية ، ولكن عددها كثيرة جدا على كل حال . هناك طائفة من الفوارق لا تتناول سوى بعض قواعد الصرف والنحو أو الألفاظ أو ترتيب الكلام ، ولكن هناك فوارق أخرى بين المخطوطات تتناول معنى فقرات برمتها . واكتشاف مصدر هذه الفوارق ليس بالأمر العسير . فإن نص العهد الجديد قد نسخ ثم نسخ طوال قرون كثيرة بيد نساخ صلاحهم للعمل متفاوت ، وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون تتصف أية نسخة كانت ، مهما بذل فيها من الجهد ، بالموافقة التامة للمثال الذي أخذت عنه . يضاف إلى ذلك أن بعض النساخ حاولوا أحيانا ، عن حسن نية ، أن يصوبوا ما جاء في مثالهم وبدا لهم أنه يحتوي أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي . وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد أن تكون كلها خطأ . ثم يمكن أن يضاف إلى ذلك كله أن الاستعمال لكثير من الفقرات من العهد الجديد في أثناء إقامة شعائر العبادة أدى أحيانا كثيرة إلى إدخال زخارف غايتها تجميل الطقس أو إلى التوفيق بين نصوص مختلفة ساعدت عليه التلاوة بصوت عال . ومن الواضح أن ما أدخله النساخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعضه الآخر ، فكان النص الذي وصل آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلا بمختلف ألوان التبديل ظهرت في عدد كبير من القراءات . والمثال الأعلى الذي يهدف إليه علم نقد النصوص هو أن يمحص هذه الوثائق المختلفة لكي يقيم نصا يكون أقرب ما يمكن من الأصل الأول ، ولا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه . وأول عمل في علم نقد النصوص هو النظر في جميع نسخ النص . فيجب بعبارة أخرى أن تحصى وترتب جميع الوثائق التي يرد فيها نص العهد الجديد كله أو بعضه ، ولا يقتصر الأمر على مراجعة الكتب المخطوطة باليونانية ، بل تراجع جميع الكتب التي تحتوي ترجمة العهد الجديد التي استعملها المسيحيون في القرون الأولى ( وهي اللاتينية والسريانية والقبطية ) فقد اعتمد الناقلون في بعض الترجمات أصولا يونانية أقدم من المجلد الفاتيكاني أو السينائي ، فهي تشهد على حالة للنص أقدم مما يمكن الوصول إليه بمراجعة أقدم الأصول اليونانية . فالترجمات القديمة ، على قدر ما يمكن استنباط أصلها اليوناني استنباطا دقيقا ، تساعد مساعدة مهمة على ضبط نص العهد الجديد . يضاف إلى مراجعة الكتب المخطوطة باليونانية والترجمات القديمة أن علماء نقد النصوص يحاولون الاستفادة مما في مؤلفات آباء الكنيسة من شواهد كثيرة جدا أخذت من العهد الجديد . والفائدة الأكيدة التي تجنى من هذه الشواهد هي على الخصوص أنها تمكن العلماء في أحيان كثيرة من الرجوع إلى النص كما كان قبل أقدم الترجمات ( وهكذا يرتقى أيضا إلى حالته قبل أقدم الكتب المخطوطة باليونانية ) ، ثم إن تحديد تاريخ هذه الشواهد وأصلها الجغرافي سهل المنال إلى حد ما . وهكذا يحصل العلماء على وسيلة هينة للاطلاع على نص العهد الجديد ، كما كان يستعمل في وقت من الأوقات في هذا الجانب أو ذاك من الكنيسة . غير أن لهذه الشواهد محذورين . فالأمر لا يقتصر على أن كلا منها لا يورد إلا شيئا يسيرا من النص ، بل كان الآباء ، لسوء طالعنا ، يستشهدون به في أغلب الأحيان عن ظهر قلبهم ومن غير أن يراعوا الدقة مراعاة كبيرة . فلا يمكننا ، والحالة هذه ، الوثوق التام في ما ينقلون إلينا . وإذا فرغ علماء نقد النصوص من إحصاء وتمحيص ذلك العدد الضخم من الوثائق التي تتألف منها الكتب المخطوطة باليونانية والترجمات القديمة وشواهد آباء الكنيسة ، بذل هؤلاء العلماء جهدهم في ترتيبها ليتيسر لهم استعمالها على أحسن وجه ، فيرجعوا إلى أبعد ما يمكنهم في طلبهم للأصل الأول . وأدى البحث الدقيق ، والحالة هذه ، بأهل الاختصاص إلى اكتشاف هذا الأمر ، وهو أن ذلك العدد الكبير من الوثائق المعروفة تنقسم إلى عدد محدود من الفئات الكبرى . وهكذا استطاعوا أن يقيموا ثلاث فصائل كبرى أو أربعا من الأصول يبدو جميع ممثليها نسخا لمثال واحد . وبوسع علماء النقد ، على أثر هذا العمل الذي لم يكتمل إلى اليوم ولكنه بلغ مبلغا عظيما ، أن يعتمدوا اعتمادا حسنا ، لا على عدد ضخم من الوثائق بمفردها ، بل على فئات من الأصول يظهر في كل منها مثال للنص يمكن تحديد تاريخه ومكانه بكثير أو قليل من اليقين . وأهم الأمثلة التي أبرزها علماء النقد هي : - نص يقال له " الأنطاكي " أو " السوري " بالنظر إلى أصله الذي ينسب على العموم إلى أنطاكية في نحو السنة 300 . فقد ورد في معظم الكتب المخطوطة باليونانية ولا سيما أحدثها ، لأنه ما لبث أن أصبح أكثر النصوص استعمالا في العالم البيزنطي ، ولذلك يقال له أيضا " البيزنطي " أو النسخة الشائعة . ويظهر فيه اهتمام خاص بالأناقة والوضوح ويميل إلى التوفيق بين فقرات فيها الكثير أو القليل من التشابه ويدمج الروايات المختلفة في فقرة واحدة . قيمته ضعيفة من جهة النقد ومع ذلك فإن الطبعات الأولى للعهد الجديدة اعتمدت نسخا متأخرة لهذا النص ، فشاع مدة تزيد على ثلاثة قرون وعرف بالنص المتداول ، أي النص الذي يتداوله جميع الناس . - نص يقال له " الاسكندري " أو " المصري " ، فكل شئ يدل على أنه ينسب إلى مصر ، بل إلى الاسكندرية نفسها . وأهم مثال له المجلد الفاتيكاني ، ودونه أهمية السينائي . وجد نحو السنة 300 على أقل تقدير ، واكتشف في عهد قريب عدة أشياء توحي بأن وجوده يعود إلى قبل ذلك الوقت بمدة طويلة ، وعلى الخصوص نص الأناجيل الأربعة . . يكاد يجمع أهل الاختصاص كلهم على أن لهذا النص قيمة عظيمة من جهة الدقة . . وتعتمد طبعات العهد الجديد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر هذا المثال للنص وهي محقة في ذلك وإن كان لا يحسن عده خاليا من الشوائب . - نص يقال له " الغربي " . لقد اتضح أن هذه التسمية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر هي تسمية غير صحيحة . فإن الترجمات اللاتينية القديمة للعهد الجديد وبعض الكتب المخطوطة باليونانية واللاتينية كمجلد بيزا ( من القرن الرابع ؟ ) ، في ما يعود إلى الأناجيل وأعمال الرسل ، تدل على أن هذا المثال من النص قد انتشر انتشارا واسعا في الغرب ، ولكن أصبح من الواضح اليوم أنه وجد في الشرق أيضا كما تشهد بذلك بعض الترجمات الشرقية وكثير من الشواهد وبعض الأجزاء للكتب التي خطت باليونانية في عهد بعيد . فإن هذا النص " الغربي " هو الصيغة الأقدم والأعم للعهد الجديد في كثير من الأمور . ويتميز بميله الشديد إلى الشرح والإيضاح والتفسير والتوفيق بين الروايات المختلفة ، وهذه الأمور تبعده على العموم من الأصل الأول ولكن قراءاته القديمة ، ولا سيما القصيرة منها ، هي على العموم جديرة بأن تعد ذات قيمة . ولا يقتصر الأمر على هذه الفصائل الكبرى للكتب المخطوطة فهناك صيغ وسط بين هذه الأمثلة المذكورة ، ولا حاجة بنا إلى تفصيل ذلك . حسبنا أن نشير إلى الفائدة المتوقعة من تحديد هذه الأمثلة للنص ومعرفة زمانها ومكانها ، بالاستناد إلى ما نعرفه من التاريخ والجغرافيا لدى مراجعة الترجمات والشواهد وعلم الكتابات والخطوط القديمة عندما يقتضي الأمر ذلك . وهكذا يمكن ، لدى البحث في كل قراءة أو سفر أو العهد الجديد كله ، معرفة الصيغ الأكثر قدما والأكثر ورودا والتي يقدر أن تكون الأقرب إلى الأصل الأول . وهذا النقد الأول الذي يقال له النقد الخارجي غير كاف ، فكثيرا ما يؤول هذا النقد إلى الوقوف على فقرة لها في القرن الثاني أو الثالث روايتان انتشرتا قليلا أو كثيرا ، ومن العسير اختيار إحداهما . فلا بد من اللجوء إلى النقد الباطني . فهو ينظر إلى القراءات نظره إلى أنها تبرز أمثلة مختلفة لنص العهد الجديد ، بل ينظر إلى كل رواية وحدها ويفحصها في حد ذاتها ، لأنها تدخل لا داعية له قام به الناسخ عن قصد أو غير قصد . وهدف أصحاب النقد الباطني أن يوضحوا بجلاء نوع التدخل الذي قام به الناسخ والأسباب التي دعته إلى ذلك التدخل . فيسهل بعد ذلك الارتقاء إلى القراءة القديمة التي تفرعت منها سائر الروايات ولا يحسن استعمال النقد الباطني وحده ، لأنه مرهون برأي الناقد . ولذلك جرت العادة ألا يستعمل النقد الباطني إلا وسيلة متممة للنقد الخارجي . ومهما يكن من أمر ، فإن النتائج التي حصل عليها علماء نقد النصوص منذ 150 سنة جديرة بالإعجاب . وبوسعنا اليوم أن نعد نص العهد الجديد نصا مثبتا إثباتا حسنا ، وما من داع إلى إعادة النظر فيه إلا إذا عثر على وثائق جديدة . أن هذه النتائج مكنت من التقدم الكبير الذي يراه المرء إذا قارن بين الطبعات الحديثة للعهد الجديد من جهة والطبعات التي ظهرت منذ 1520 إلى نحو سنة 1850 ، قبل العمل المحكم بقواعد علم نقد النصوص . الطبعة الأكثر انتشارا في أيامنا هي طبعة نستلي - ألاند ، وقد اعتمدت النص العائد للطبعات العلمية العصرية الثلاث ، قام بها في النصف الثاني للقرن التاسع عشر تيشندورف ، ووسكوت - هورت ، ووايس . إن العهد الجديد اليوناني الذي نشرته جمعيات الكتاب المقدس وحققه ك . ألاند وم . بلاك وب . م . ميتزجر وا . ويكرين بذل الجهد فيه لإدخال زيادة من التحسين على ذلك النص .

[ بيئة العهد الجديد ]


نشأت المسيحية في شعب عاش تاريخا مضطربا . فإن إسرائيل بعد جلائه الأليم إلى بابل ، الذي بلغ أثره أعماق نفسه ، عاد إلى فلسطين وأقام فيها ورتب أموره على قدر ما استطاع . ولكن اليهود تحققوا أن الأحوال قد تغيرت وأنه لا سبيل إلى العيش كما في الماضي . فإن فلسطين قد أمست أكثر مما كانت عليه في الماضي رهن مصالح تفوق طاقتها وعرضة لتأثير خبيث مستمر يأتيها من آراء غريبة وثنية تعارض معارضة تزداد حدتها يوما بعد يوم التقاليد الموروثة عن الأجداد والتي كانوا يبذلون جهدهم في الحفاظ عليها مهما كلف الأمر . وقد تطورت على مر الأيام المجابهة بين اليهودية والعالم المحدق بها وازدادت عنفا . فقد دخلت فلسطين منذ وفاة الاسكندر الكبير السنة 323 في حكم الملوك الهلنستيين ، فاختلف موقفهم من اليهود اختلافا كبيرا ، فمنهم من أظهر تسامحا كبيرا ومنهم من حاول بأعنف الوسائل دمج اليهود بالوثنيين . وظل اسم انطيوخس الرابع ابيفانيوس ( 175 - 164 ) مقترنا بأقسى تلك المحاولات للقضاء بالقوة على ما لليهود من نمط عيش خاص بهم وحملهم على اعتناق المدنية اليونانية . وكانت ذروة ذلك العنف تحويل هيكل أورشليم إلى عبادة جوبيتر الأولمبي ، فكانت نتيجة هذه الأحداث ، التي رويت في سفري المكابيين ، إن اليهود الأتقياء ( حسيديم ) اضطروا في جملتهم إما إلى المقاومة السلبية وإما إلى التمرد ، فأدت الثورة المسلحة ، وكان قادتها الإخوة المكابيون ، إلى استعادة قدر من الاستقلال السياسي والديني استمر نحو قرن . فإن سلالة الحشمونيين التي ينسب اسمها إلى أحد أجداد يهوذا المكابي ، حكمت فلسطين إلى أن فرض عليها النظام الروماني ، فقد دخل بومبيوس لحسم الخلافات الداخلية التي كانت تفرق بين الحشمونيين ، فاستولى على أورشليم السنة 63 ق . م . سادت سلالة هيرودس في أوائل الحقبة الرومانية لتاريخ فلسطين . ملك هيرودس الكبير ( متى 2 / 1 ) من السنة 40 إلى السنة 4 ق . م . مستعملا وسائل الارهاب أحيانا كثيرة ، وقد أبغضه الشعب اليهودي بغضا لا هوادة فيه لأصله الأدومي ، فلم يكن من سلالة داود ، ولشراسته أيضا . ولما توفي اقتسم أولاده مملكته ، فكان نصيب هيرودس أنطيباس الجليل ( لو 3 / 1 ) والبيرية ، فملك من السنة 4 ق . م . إلى السنة 39 ب . م . عرف بقتله ليوحنا المعمدان ( مر 6 / 17 - 29 ) وباشتراكه في محاكمة يسوع ولو قليلا ( لو 23 / 6 - 16 ) . أما أرخلاوس ( متى 2 / 22 ) ، وكان نصيبه اليهودية والسامرة ، وفيلبس ، وكان نصيبه البلاد من شمال البيرية ( لو 3 / 1 ) ، فلا تعرف الأناجيل سوى اسمهما . ولكن السلطة السياسية المسيطرة كانت في أيدي الرومانيين الحكام منهم أو الولاة . وقد ذكر العهد الجديد بضعة منهم : بنطيوس بيلاطس وهو خامسهم . تصرف في منصبه بعنف منذ السنة 27 إلى السنة 37 ، وفيلكس وكان قاسيا فاسقا ( إذا كان لنا أن نصدق تاقيطس ) . تولى منصبه منذ السنة 52 إلى السنة 60 وتسبب إلى حد بعيد في اندلاع الحرب الأهلية في البلاد التي كان يليها ، ولديه مثل بولس في قيصرية ( رسل 23 / 23 - 24 و 26 ) وخلفه فسطس ( رسل 25 - 26 ) وفي حضرته رفع بولس دعواه إلى قيصر ( رسل 15 / 11 - 12 ) . انقطع عهد الحكام بعودة سلالة هيرودس إلى الحكم مدة قصيرة ، فملك أغريبا الأول ، حفيد هيرودس الكبير ، وقد عرف ، على ما جاء في العهد الجديد ، بأنه كان أول مضطهدي الكنيسة الناشئة ( رسل 12 / 1 - 23 ) ولم يشهد هذا الفصل من الزمن ( 39 - 44 ) تحسنا في أحوال فلسطين ، فقد تفاقمت الاضطرابات السياسية في عهد الحكام الآخرين وتحولت إلى ثورة حقيقية وآل قمع الرومانيين الشديد السنة 70 إلى خراب أورشليم وهيكلها ، ولما خرب الهيكل تعذر على اليهود إقامة شعائرهم الدينية . فقد منيت اليهودية في نظامها السياسي والديني والوطني بأسوأ كارثة أصابتها طوال تاريخها . ويبدو أن الجماعة المسيحية الصغيرة كانت ، قبل وقوع هذه الحوادث المشؤومة ، قد هربت من أورشليم ولجأت إلى بلا في منطقة المدن العشر . ولم يكن تاريخ اليهودية بعد السنة 70 سوى تاريخ ملايين من اليهود كانوا منذ عدة قرون قد تفرقوا في حوض البحر الأبيض المتوسط كله وفي بلاد الجزيرة بين النهرين وفي بلاد الفرس نفسها ، تباعا لجميع العواصف التي ضربت الشرق الأوسط . وكانت أكبر الجماعات في هذا الشتات تقيم في الاسكندرية وأنطاكية ورومة . وكان اليهود يحظون فيها بنظام للأحوال الشخصية يجيز لهم الحفاظ على إدارة دينية ومدنية مبنية على شريعة موسى . وإن تيارا من العداء للسامية غير ظاهر ساعد على عزل تلك الجماعات عن بيئتها في المجتمع ، ولكنه لم يطغ طغيانا عنيفا مقصودا إلا نادرا . وكان المجمع مركز الحياة الدينية والثقافية عند اليهود ، فقد كان في الوقت نفسه مدرسة وناديا ثقافيا ومكان العبادة . وكانت العبادة تقتصر في جوهرها على الصلاة وتلاوة التوراة وتفسيرها . وكانت اليهودية في أيام يسوع عبارة عن نظام اجتماعي ديني متجانس مبني على الإيمان بالرب القدير الأحد ومراعاة قاعدة مطلقة هي التوراة أي الشريعة . فكان بوسع الفكر اليهودي أن ينطلق من هذين العنصرين الأساسيين فيجول بكثير من الحرية وهو ينعم بتسامح كبير من لدن السلطات الدينية على الخصوص . وكانت أحداث الحياة اليهودية تجري كلها في ضوء إلهي يأتيها من الشريعة . فهذه الشريعة كاملة لأنها من أصل إلهي ، ولكن لا بد من شرحها وتفسيرها ليسري حكمها على المسائل العملية والفردية . وقد استمر ذلك الجهد في الشرح مدة قرون كثيرة فآل إلى إنشاء توراة شفهية تحيط بالتوراة المكتوبة وتتألف مما سمي سنة الأقدمين وقيل إنه يرتقي إلى موسى بشهادات متواترة من الربانيين . إن العهد الجديد يطلق اسم الكتبة على أولئك المثقفين الذين يفسرون التوراة . وكان لهم زمن يسوع سلطة كبيرة عند الشعب ، ولا سيما عند الطبقات الوسط ، كانوا يعملون عمل معلمي اللاهوت والفقهاء في المجتمع ، فكان لهم شأن كبير في حياة اليهود . وأخذ الربانيون منذ القرن الميلادي الثالث يدونون سنة الكتبة كلها بعد ما ظلت إلى ذلك الحين شفهية . فآل العمل الضخم إلى تكوين المشنة ( تكرار الشريعة ، تفسير ) التي دخلت هي بنفسها في تأليف التلمود ( التعليم ) . وهناك أمر لا يقبل الجدل وهو أن القطب الآخر لحياة اليهود كان في القرن الأول هيكل أورشليم وعليه كانت تنصب مشاعر الشعب كلها ، الدينية منها والوطنية ، فقد كانوا ينظرون إليه نظرهم إلى مركز العالم فيه سيتجلى الله في اليوم الأخير . وكان البالغون من ذكور اليهود يلزمون أنفسهم ، إن لم نقل يلذ لهم ، أن يؤدوا في الوقت المحدد ضريبة الدرهمين لسد حاجات الهيكل . وكان يقوم بشعائر العبادة والطقوس كهنة ينتخبون من سليلي أسرة هارون وكان يعاونهم اللاويون في أعمالهم . فقد كانت هناك طبقة كهنوتية تدور في فلك هيكل أورشليم ، وكان لها نظام تسلسل محكم تحت سلطة عظيم الكهنة العليا ، وكان يرئس مجلس اليهود وهو جمعية مؤلفة من سبعين عضوا ما بين كهنة وعلمانيين ، إليهم يعود الحكم في الشؤون المدنية والدينية . وكان في الوقت نفسه خصام يتفاقم يوما بعد يوم بين الكتبة وهؤلاء الممثلين للطبقة الكهنوتية . وكان ذلك الخصام مظهرا من مظاهر الخلاف بين الهيكل والمجمع ، أي بين الصدوقيين والفريسيين . وكانت هاتان النزعتان الكبيرتان تؤلفان ما جرت العادة أن يقال له اليهودية الرسمية . ورأى الصدوقيون سلطتهم عرضة لمنازعة شديدة منذ زمن يسوع . فقد كانوا محافظين وأنصارا لسيادة النظام في كل وجه من الوجوه ، وإن كان ذلك النظام رومانيا ، لأنه يضمن لهم جل دخلهم . ولذلك كان الشعب يتهمهم اتهاما جديا بالتعاون ، بل بالتواطؤ ، مع حكومة الاحتلال الوثنية . ومهما يكن من أمر ، فقد فقدوا كل نفوذ عند الشعب ، وكان الشعب يفضل عليهم خصومهم الفريسيين وقد رأى فيهم مواطنين مخلصين للرب والشريعة ، سليلي الحسيديم المشهورين الذين اشتركوا في الثورة على انطيوخس ابيفانيوس في أيام المكابيين . وأدى خراب الهيكل السنة 70 إلى خراب الصدوقيين ، وكان مصيرهم مرتبطا به ارتباطا تاما . وقد مثلت منذ ذلك الوقت النزعة الفريسية وحدها اليهودية الرسمية . وكان في زمن يسوع ، على هامش هذين " الحزبين " ، عدة شيع لبعضها فائدة كبيرة لمعرفة البيئة التي نشأت فيها المسيحية . وليس لدينا عن شيعة الغيورين سوى أخبار جزئية يعسر تفسيرها . يبدو أنها كانت جناحا متطرفا لحزب الفريسيين ، وكان أعضاؤها مصممين على فرض مراعاة أحكام الشريعة بجميع الوسائل حتى بالقوة منها . وقد وصفوا أحيانا بقطاع طرق رعاع ، في حين أنهم كانوا في حقيقتهم من المتعصبين الدينيين الذين يعارضون معارضة مطلقة رأي سلطة لا تصدر من الشريعة نفسها . لذلك لم يكونوا يترددون في أن يعاقبوا بالموت كل من كان مذنبا في نظرهم بمخالفات كبيرة للشريعة ، ولا سيما الذين كانوا يعاونون حكومة الاحتلال الوثنية . وربما كان بعض تلاميذ يسوع ، بل بولس نفسه ، قبل أن يصيروا مسيحيين ، على صلة بشيعة الغيورين . وكان هناك الاسينيون وكانوا في هامش الحزبين المذكورين على قدر أبعد من الغيورين . وقد تحسنت معرفتنا للاسينيين منذ اكتشاف الكتب المخطوطة في قمران على البحر الميت . وكان أكثرهم من الرهبان ولكن كان بعضهم يقيمون في خارج دير قمران المركزي ويؤثرون تأثيرا كبيرا في سكان فلسطين . كان الاسينيون أعداء الدة للسلطات اليهودية القائمة ، ولا سيما لعظيم الكهنة . كانوا يهود متشددين جدا ، ومع ذلك فقد تقبلوا كثير من الأفكار الأجنبية وكيفوها وفقا لمذهبهم اللاهوتي . ولا شك أنهم تأثروا بمبادئ إيرانية فأنشأوا عقيدة ثنائية صريحة جدا ، مبنية على التناقض التام بين روحين أو قوتين إحداهما للخير والأخرى للشر ، تتحاربان في معركة لا رحمة فيها حتى اليوم الأخير وفيه يشاهد النصر النهائي يحرزه أمير النور على ملاك الظلام . لا ذكر للأسينيين في العهد الجديد ، وليس فيه ما يدل على تأثير مباشر لعقيدة الأسينيين في المسيحية . غير أن أناسا مثل يوحنا المعمدان ويسوع والتلاميذ الأولون عاشوا ، وهم إلى بيئة " الشيع " اليهودية في القرن الأول أقرب منهم إلى بيئة اليهودية الرسمية . وكانت هذه البيئات كلها ، على قدر ما يتيسر لنا الاطلاع على الأمر ، تميل إلى آراء الأسينيين على درجات متفاوتة . فليس من المستحيل أن تكون المسيحية في أول نشأتها قد أفسحت قليلا في المجال لتلك الآراء وأنه ساد الجماعة المسيحية في أورشليم تفكير وسلوك مطبوعان بما عند الأسينيين من تفكير وسلوك ، ولو مدة من الزمن . لا شك أن الأسينيين اشتركوا اشتراكا فعالا في الثورة على الرومانيين . وقد زالوا عن التاريخ في عاصفة السنة 70 . إن الأحداث التي أدت إلى خراب أورشليم تشهد على ما بلغه الغيظ عند الجماعات اليهودية التي عانت تعسف الحكام الرومانيين . كان الغيورون يستغلون استغلالا كبيرا ذلك الغيظ الذي كانت تغذيه أيضا جميع المعتقدات المستوحاة من الرؤى ، وقد نمت نموا كبيرا في فلسطين منذ القرن الثاني قبل الميلاد . فقد ترسخ يوما بعد يوم في يقين اليهود أن الله لن يلبث أن يرد على تحدي وجود الوثنية في الأرض المقدسة فيعود إلى إقامة عدله ويعيد إلى مختاريه امتيازاتهم ، إذ يبسط ملكوته على الأرض بسطا يبهر العيون ، وهذا التدخل يجعل حدا للشدائد الحاضرة ويفتح عهدا جديدا خاليا من الشر والإثم ، ويؤذن بقدوم ذلك العهد آخر الأمر تضاعف الكوارث والنكبات يرافقها ابتلاع جميع أعداء الله من غير رجعة . إن جملة هذه المعتقدات تؤلف آراء اليهودية المتأخرة في أمور الأزمنة الأخيرة . وكانت آراؤها في الخيرات التي يرجى الحصول عليها في الأزمنة الأخيرة أبعد من أن تكون مجموعة محكمة التماسك ، بل كانت أقرب إلى فيض من الأفكار لا تخلو من الغموض ويعسر ضبطها . ومع ذلك فما يمكن الوصول إلى معرفته هو أن هذه الآراء ، لما اقترب العهد المسيحي ، ازدادت تشددا على الأقل في بعض البيئات . فقد بلغت بلايا إسرائيل مبلغا لم يبق من المعقول أن يرجو الناس بعده ظهور مشيح بشري في التاريخ يستطيع أن يعيد ذات يوم إلى الشعب المختار كرامته . فكانوا ينتظرون من الله وحده تبديل الحالة ، وكانوا يرون أن ذلك التحول الذي ينتظرونه بفروغ الصبر لن يحدث إلا لصالح انقلاب يشمل الكون كله إذ يظهر بغتة عالم جديد برمته . ففي ذلك المشهد لرؤيا الأزمنة الأخيرة ليس للمشيح نصيب كبير جدا في جميع الآراء . فإن مؤلفي الرؤى ، عندما يتكلمون عليه ، كفوا ، على ما يبدو ، عن أن يروه شأنهم في الماضي مشيحا دنيويا مسحه يهوه ، وبعبارة أخرى ملكا من ذرية داود يقوم بأعمال سياسية وعسكرية في جوهرها ، ليحقق بعون الله تحرير الشعب وازدهاره . فهم يميلون بعد ذلك إلى إظهار المشيح بمظهر كائن من الملأ الأعلى أقرب إلى الله منه إلى البشر ، ويطلق عليه في بضع رؤى اسم ابن الإنسان ، ولكنه يظل في جوهره وجها سماويا ليس له صلة حقيقية بالناس وغير قابل للألم . إن مجمل معتقدات أهل ذلك العصر في المشيح والأزمنة الأخيرة كانت من الأمور التي رجع إليها المسيحيون لما أرادوا تحديد ما يؤمنون به في كلامهم على المسيح . غير أن المسيحيين تنبهوا لنصيب الألم في مصير يسوع فاضطروا إلى أن يجعلوا معنى جديدا بأجمعه لأقوال معاصريهم في المشيح ورؤى الأزمنة الأخيرة . [ بعض النظرات إلى العالم اليوناني الروماني ] كان العالم الروماني في أول العهد المسيحي الوريث الأول للأمبراطورية التي أنشأها الاسكندر الكبير . فقد بقيت ، تحت طلاء روماني ، الإدارة الإقليمية نفسها وأحوال الحياة نفسها عند الجماعات والأفراد ، وبكلمة واحدة المدنية نفسها ، وظلت اليونانية اللغة المشتركة . ونظرة إلى خريطة الأمبراطورية الرومانية تظهر سعتها أكثر مما يظهرها كل تعداد . فرحابتها رحابة عالم بأسره وهي ترسخ كل سنة سلطتها ترسيخا أمتن بمحو جميع الفوارق وبرد غزوات البرابرة ( الجرمانيين والفرتيين . . ) . ولما كانت الأمبراطورية حصيلة فتوحات كثيرة ، فقد ضمت بلادا مختلفة النظام : مصر وهي ملك خاص بالأمبراطور ينتدب إليها حاكما هو نائب للملك . والمحميات وهي ممالك قديمة احتفظت بهيئاتها التقليدية ، والأقاليم . ولا بد من التمييز بين الأقاليم المنوطة بمجلس الشيوخ ( آسية وهي آسية الصغرى ) والأقاليم التي ظلت الجيوش الرومانية معسكرة فيها وحيث يضطلع بالسلطة الحكام وهم مسؤولون لدى الامبراطور وحده ( سورية ) ويدير الولاة شؤون اقطار لها ميزات خاصة ( اليهودية ) . هذا النظام ، نظام التسلط الذي لا يترك للأقطار سوى ظاهر الاستقلال الذاتي ( المجالس الإقليمية ) ، يضمن لجميع الناس سلاما محدودا ولكنه حقيقي استفادت منه على الخصوص مدن آسية ، بفضل التبادل التجاري الذي يزدهر عندما يسود النظام . ثم إن المدن تتمتع بشئ من الحرية : فالذي يدير شؤونها مجلس كان جميع المواطنين أعضاء فيه ، ويديرها خصوصا مجلس الأعيان ، وللجمعيات المهنية نصيب كبير في الحياة المحلية . ويحق للمرء أن يكون ابن مدينته وأن ينعم فوق ذلك بالجنسية الرومانية ، وقد تكون تلك الميزة وراثية ( ذلك شأن بولس ) أو يحصل عليها بالمال أو تمنح على سبيل المكافأة . والمواطن الروماني لا يتعرض للعقوبات الجسدية المعيبة ( رسل 22 / 25 - 29 ) ويحق له رفع دعواه إلى قيصر ( رسل 22 / 10 ) . وأخذ الناس ، قبل العهد المسيحي بقليل ، ينظرون إلى الأباطرة نظرهم إلى كائنات إلهية ، أبناء الله ، بل آلهة . وهذا التطور ، وقد أثرت فيه تأثيرا كبيرا معتقدات الشعوب الشرقية ( مصر وفارس ) ، موافق لمنطق الأمور . فلما كانت الأمبراطورية واحدة ، لزم أن تظهر العبادة أساسها الواحد . فضل طيباريوس وقلوديوس وسبسيانس أن يشجعوا عبادة الامبراطور بعد موته فحسب ، في حين أن قليغولا ونيرون ودوميطيانس تركوا الناس يعبدونهم في أثناء حياتهم . والحقيقة أن رومة لم تفرض هذه الديانة ، فلم يكن للأمبراطور سوى أن يترك الأمر لتحمس الأقاليم والمدن والجمعيات المهنية أو شكرها أو تملقها . وذلك ما يوضح سبب ذلك الازدهار المدهش لتلك العبادة ( فقد خصتها أفسس بعدة معابد ) وكانت تتعايش تعايشا تاما مع أنواع أخرى من الدين . وكان كبار عظماء الكهنة يختارون من بين القضاة المحليين . وكان ذلك المنصب يكلف كثيرا من المال ، ولكنه كان يضمن لصاحبه نفوذا سياسيا حقيقيا لشدة التشابك بين الدين والإدارة . وقد سببت تلك الحالة للمسيحيين الأولين مشكلة عسيرة : كيف يمكنهم أن يظلوا مواطنين صالحين من غير أن يقبلوا أن يساقوا إلى عبادة الامبراطور . فإن عدة أقوال وردت عند بولس الرسول تصبح واضحة إذا قرئت بالنظر إلى ذلك ، فقد كانت المسألة لا تقل عن نبذ نظرية تشمل العالم كله . في فصول الرؤيا كلام كثير على هذه المسألة الحامية الوطيس . وأول ما تتعلق به الجماهير الشعبية هو ما يعبد به الآلهة المألوفة التي تحميهم ، وهي قريبة جدا من الهموم اليومية . غير أن العبادات الوطنية وعبادة الامبراطور هي التي تظهر على أحسن وجه ما يمتاز به دين ذلك الوقت : فالدين نافذ إلى أعماق الحياة اليومية ، فضلا عن أنه الدين الرسمي . فإن مراحل حياة الإنسان ، حياته الفردية وحياته عضوا في أي مجتمع كان ( الأسرة أو العشيرة أو الجمعية الحرفية أو المدنية ) ، تتأثر بالدين تأثرا عميقا . فكل منصب رسمي يلزم صاحبه بالاشتراك الفعال في العبادة . وذلك الدين دين كثير التنوع ( فالآلهة كثيرة ) ، ولكن العبادة تقتصر على الطقوس وحدها ، فيحسن تكريم الآلهة وتقريب الذبائح وفقا للأصول المرعية . فهذه هي التقوى . وتشمل الحفلات صلوات طقسية ( دعاء ودعوة الإله إلى الذبيحة وطلب للخيرات ، وذبائح ينظرون إليها نظرهم إلى هدايا تهدى إلى الإله ، وذلك أصل المسائل التي تعرض للمسيحيين الذين يشترون ذلك اللحم أو يدعون إلى تلك المآدب ( 1 قور 8 ) . ويعبر الإنسان أحيانا كثيرة عن شكره لله الذي استجابه بتحف النذور كالتي عثر عليها في حفائر بركة الغنم في أورشليم ( وكان هناك معبد وثني خاص بإله يشفي من الأمراض ) . وقد ساعد اختلاط الأفكار والناس على نشر عبادات من أصل شرقي ميزتها أقل طلبا للمتعة المادية . نذكر عبادات ايزيس وفيها اختبارات متتابعة تصحب التلقين وتسير بالإنسان إلى الاندماج في أوزيريس الإله الذي مات فأعادته أساليب ازيس السحرية إلى الحياة . فقد كانوا يعلنون أنها تحتوي ضمانا للخلود . إن الأسرار أوثق ارتباطا بالعبادة الوطنية وتحافظ على صلاتها المحلية ، ولو شاع ذكرها في طول الأمبراطورية وعرضها . إنها عبارة عن طقوس مقدسة يستعد لها المرء لمدة طويلة في جو يشغل فيها معنى كتم السر مكانا كبيرا . وما هي في أكثر الأحيان سوى طقوس موسمية غايتها أن تضمن التلقيح ، ولكن يدعى فيها أحيانا أنها تعطي المؤمنين بها ضمانات للحياة بعد الموت ( وذلك بقوة الطقس وحده فلا شأن للتعليم أو العقيدة في الأمر ) . هكذا كانت أسرار اليزيس وأسرار ديونيزس ( باخس ) وفيها يعبر تعبيرا وحشيا عن الحاجة إلى الانعتاق بالانخطاف والهذيان المقدس في أثناء سباقات جنونية وتناول لحوم لا تزال تختلج . فإن إلها يمكن المؤمنين به من الانعتاق إلى حين من أحوال هذه الدنيا لا يتركهم بعد موتهم . تلك بعض أهم صفات العالم الذي كان للمسيحيين الأولين أن يعيشوا فيه ، والشهادة التي يعلنونها في إيمانهم هي أن المسيح هو وحده الرب وليس الامبراطور ، فله تجب الطاعة ولو تعرضوا لأن يخالفوا مخالفة صريحة الدين الذي يسود الحياة كلها في بيئتهم . فلا يمكن المرء أن يعبد الرب إلا في حياة منذورة له ، وهو يسير سيرة مستوحاة كلها من الحب والمسيح شاهد لذلك الحب وفيه عربون الحياة الأبدية .
author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments