القائمة الرئيسية

الصفحات

المجر تستبدل العدالة العالمية بحماية نتنياهو: صفقة مشبوهة على حساب ضحايا غزة


في خطوة أثارت استنكاراً دولياً واسعاً، أعلنت المجر عن بدء إجراءات انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى بودابست. هذا القرار المثير للجدل يأتي بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق نتنياهو بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، مما يطرح تساؤلات عميقة حول التزام المجر بمبادئ العدالة الدولية والقانون الإنساني.

الإطار القانوني للانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية

وفقاً للمادة 127 من نظام روما الأساسي، يحق لأي دولة طرف الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية بموجب إخطار كتابي يُوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة. ومع ذلك، لا يصبح الانسحاب نافذاً إلا بعد مرور سنة كاملة من تاريخ استلام الإخطار. وهذا يعني أن المجر ستظل ملزمة قانوناً بجميع التزاماتها خلال هذه الفترة الانتقالية، بما في ذلك التعاون في تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة قبل تاريخ نفاذ الانسحاب.

الأهم من ذلك، تنص المادة 127(2) على أن الانسحاب لا يعفي الدولة من الالتزامات التي نشأت أثناء كونها طرفاً في النظام الأساسي، ولا يؤثر على التحقيقات والإجراءات الجارية قبل تاريخ نفاذ الانسحاب. وبالتالي، فإن مذكرة التوقيف الصادرة بحق نتنياهو تبقى سارية المفعول، ويظل من واجب المجر القانوني تنفيذها حتى بعد إتمام إجراءات انسحابها.

تضارب المصالح السياسية والاقتصادية

يعكس موقف المجر تحالفاً سياسياً وثيقاً بين حكومة فيكتور أوربان وحكومة نتنياهو، يتجاوز الالتزامات القانونية والأخلاقية الدولية. خلال السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات المجرية-الإسرائيلية تطوراً ملحوظاً، خاصة في مجالات التعاون الأمني والعسكري والتكنولوجي.

تشير التقارير الاقتصادية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد تضاعف خلال العقد الماضي، مع استثمارات إسرائيلية كبيرة في قطاعات حيوية في المجر. هذه المصالح الاقتصادية المتشابكة تلقي بظلالها على القرار المجري، وتثير الشكوك حول ما إذا كانت بودابست قد وضعت مكاسبها القصيرة المدى فوق التزاماتها الدولية والقانونية.

التداعيات على منظومة العدالة الدولية

يشكل قرار المجر سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، إذ يمثل المرة الأولى التي تنسحب فيها دولة أوروبية من المحكمة الجنائية الدولية بهدف حماية شخص مطلوب للعدالة. هذا النمط من السلوك، إذا لم يواجه برد فعل دولي حازم، قد يشجع دولاً أخرى على اتباع النهج نفسه، مما يهدد بتقويض النظام القضائي الدولي بأكمله.

من الناحية القانونية، يتعارض هذا الموقف مع مبدأ عدم الإفلات من العقاب، الذي يمثل حجر الزاوية في نظام روما الأساسي. كما أنه يخالف التزامات المجر بموجب اتفاقيات جنيف، التي تُلزم الدول بملاحقة ومعاقبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، بغض النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية مرتكبيها.

مسؤولية الاتحاد الأوروبي وآليات الضغط المتاحة

باعتبار المجر دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، فإن موقفها يضع الاتحاد أمام تحدٍ كبير. إذ أن جميع دول الاتحاد الأوروبي أطراف في نظام روما الأساسي، وقد دعمت المحكمة الجنائية الدولية باستمرار كركيزة أساسية في نظام العدالة العالمي.

يمتلك الاتحاد الأوروبي آليات متعددة للضغط على المجر، منها تفعيل المادة 7 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، التي تسمح بتعليق حقوق التصويت للدولة العضو في حال انتهاكها للقيم الأساسية للاتحاد. كما يمكن استخدام الأدوات المالية، مثل تقييد الوصول إلى صناديق الاتحاد الأوروبي، للتأثير على موقف بودابست.

الانعكاسات الإنسانية: ضحايا غزة بين مطرقة الحرب وسندان السياسة

يمثل تخلي المجر عن التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية طعنة قاسية لضحايا النزاع في غزة، الذين يعلقون آمالهم على المساءلة القانونية كسبيل لتحقيق العدالة. فمنذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في أكتوبر 2023، شهد قطاع غزة دماراً هائلاً وخسائر بشرية فادحة، وسط تقارير أممية توثق انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي.

يؤكد خبراء حقوق الإنسان أن الإفلات من العقاب يشجع على ارتكاب المزيد من الانتهاكات، ويعمق جراح الضحايا، ويقوض فرص السلام المستدام. لذا، فإن موقف المجر لا يضر فقط بالعدالة الدولية، بل يساهم أيضاً في إطالة أمد معاناة المدنيين وتعميق الانقسامات في المنطقة.

سوابق تاريخية ودروس مستفادة

ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها المحكمة الجنائية الدولية تحديات من هذا النوع. فقد سبق أن انسحبت دول أخرى مثل بوروندي والفلبين من المحكمة، احتجاجاً على تحقيقات كانت تستهدف مسؤولين فيها. لكن انسحاب المجر يختلف في كونه يهدف إلى حماية مسؤول من دولة أخرى، وهو نمط جديد من التحايل على القانون الدولي.

التاريخ يعلمنا أن محاولات تقويض العدالة الدولية لمصالح سياسية قصيرة المدى غالباً ما تؤدي إلى عواقب وخيمة على المدى الطويل. فالنظام العالمي القائم على القواعد وسيادة القانون لم ينشأ من فراغ، بل كان نتيجة دروس مؤلمة استخلصتها البشرية من ويلات الحروب والصراعات.

الختام: طريق العودة إلى العدالة

على الرغم من أن قرار المجر يمثل نكسة للعدالة الدولية، إلا أن المحكمة الجنائية الدولية تبقى مؤسسة حيوية في النظام القانوني العالمي. فالمحكمة تواصل عملها في قضايا متعددة حول العالم، مؤكدة التزامها بمبدأ عدم الإفلات من العقاب.

الطريق نحو العدالة قد يكون طويلاً ومليئاً بالتحديات، لكنه يبقى ضرورياً لضمان حقوق الضحايا وبناء سلام مستدام. على المجتمع الدولي الآن مسؤولية التصدي لمحاولات تقويض نظام العدالة الدولية، والتأكيد على أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لن تمر دون عقاب، مهما كانت هوية مرتكبيها أو مواقعهم السياسية.


أنت الان في اول موضوع
author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments