القائمة الرئيسية

الصفحات


هيثم مناع

منذ دخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية بعد 24 فبراير 2022، أسمع المسؤولين والمسؤولات في بلدان البلطيق، جيل فاست فود، يعربون عن مخاوفهم من احتلال روسي جديد، “يعيدنا إلى استعمار روسي عانينا منه طيلة نصف قرن”. وكونني أمضيت شبابي في دراسة الظاهرة الشمولية، أو المشروع الشمولي للحكم، نازيا أو شيوعيا أو إسلامويا، أشعر بنوع من بؤس التأريخ والجغرافيا عند أجيال ما بعد “الاتحاد السوفييتي”، خاصة في أوربة الشرقية، التي حُرمت من العدو “السوفييتي”، ولم تجد سوى “الروسي” بديلا لتنصيبه عدوا،  ولو كان ذلك عبر إعادة الاعتبار لحلفاء النازية، أو تنصيب ستيبان بانديرا بطلا لأوكرانيا وتمجيد المقاومة الأسطورية لكتيبة آزوف التي سبق ودعت عضوة الكونجرس الأمريكي إليسا سلوتكين، رئيسة اللجنة الفرعية للاستخبارات ومكافحة الإرهاب، وزير الخارجية أنطوني بلينكين إلى تصنيفها كـ “منظمة إرهابية أجنبية”. (في 2019 طالب أربعين عضوا في الكونغرس بذلك من قبل؟).

تحتاج أية بروباغندا قومجية إلى بناء أساطيرها، وفي الأزمات والحروب، لن تلجأ إلى المؤرخين ورجال القانون وعلماء الإنسانيات. يكفي قراءة “سيد الشعبوية” عندما يقول: “طبيعة الجماهير عاطفية وأمزجتهم تتلون دائما بألوان الشعور والانفعال.. الدعاية الناجحة هي التي تقدم إلى الجماهير في أساليب سهلة مستساغة.. من خصائص الجماهير أنها قليلة الفهم ضعيفة الذكاء ولكنها سريعة النسيان.. في كل كذبة ما ناحية يمكن تصديقها وعقلية الجماهير تصدق الكذبة الكبيرة قبل الكذبة الصغيرة.. معظم القراء لا يكلفون أنفسهم مشقة فحص وتمحيص ما يقرأون من أخبار وهم بهذا يصدقون كل شئ”. (من كتاب: كفاحي)

لنراقب تصريح الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي يقول “أكرههم” ويكرر “روسيا دفعت أوكرانيا إلى كراهيتها، وخسرتها إلى الأبد”. يشعر المرء بالألم، ليس على الروس، وإنما على الأوكرانيين الذين أعطوا ثقتهم لشخصية كوميدية، لا تظن نفسها تمثّل على خشبة المسرح، بل تعتقد بأنها هي المسرح، كما يقول طبيب الأمراض النفسية لوسيان إسرائيل في كتابه “الهستيري، الجنس والطبيب”. زيلنسكي متأكد من أنه لن يُناقش فيما يقول، وأن برلمانات العالم “الحر جدا” ستصفق، مهما قال ومهما كانت خطورة ما يقول. هل يعلم زيلينسكي، أن من قبله، لم تنجح حرب عقد من الزمن، ذهب ضحيتها مليون ونصف إنسان، لم تنجح في خلق قطيعة أبدية بين الشعوب العراقية والإيرانية؟ ومن قبله أيضا، فشلت النازية، التي تسببت في مقتل قرابة ستة ملايين بولندي، في خلق قطيعة بين الشعبين الألماني والبولوني. وأن بإمكانه أن يطلق زوجته ببضعة أوراق قانونية، ولكنه لن يغير جاره حتى بتسونامي نووي؟ ألا يتصور للحظة، أنه بخطابه الحاقد هذا، أعطى عدوه بوتين، بوعي أو دون وعي، الحق في الحديث عن عقلية قومية نازية جديدة؟ ووضع قبل الدبابات الروسية، حدودا أوكرانية جديدة لا تضم قسما أساسيا من أراضي جمهورية أوكرانيا؟

في مقالة احتجاج على ما قام به القوميون الأوكرانيون في 2014 من تكسير لتماثيل لينين في أوكرانيا ذكّر الفيلسوف السلوفاكي سلافوي جيجيك:

“العصر الذهبي للهوية القومية الأوكرانية، لم يكن في ظل روسيا القيصرية – حيث تم إحباط تأكيد الذات القومي الأوكراني – ولكن العقد الأول من الاتحاد السوفيتي، عندما كانت السياسة السوفيتية في أوكرانيا، المنهكة بسبب الحرب والمجاعة تعتمد “التوطين”. فتم إحياء الثقافة واللغة الأوكرانية وإدخال الحقوق في الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي” في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية.

من المضحك تغيير أسماء الشوارع والمعالم في حملات بدأت قبل ثماني سنوات، بما في ذلك أسماء رموز علمية وثقافية وفنية، ومن المضحك أكثر، أن يتضامن “أوربيون” مع كييف ليقاطعوا الحي والميت إن كان روسياً، ولكن هل يمكن لأحد، بعد هدوء العاصفة، أن يقول: “كان هذا ضروريا لمقاومة الغزو”؟ في هذه الحالة، كيف يمكن لكل من خسروا آباءهم وأجدادهم في الهولوكوست، تفسير صورة زيلينسكي في كانون الأول (ديسمبر) 2021، قبل الغزو، وهو يقدم جائزة “بطل أوكرانيا” إلى زعيم من “القطاع الصحيح” الفاشي في حفل أقيم في البرلمان الأوكراني؟…

من مكر التاريخ، أن مختلف المشاريع القومية في معظم دول أوربة الشرقية استلهمت أنموذجها من أول رئيس للاتحاد الروسي (بوريس يلتسن). الذي وضع حدا لاحتكار رأسمالية الدولة فاتحا رأسمالية السوق على أريحيتها، وأن حقبته هي التي أوجدت ما يسمى منذ عقدين من الزمن “الأوليغارشية الروسية” و”المافيا الروسية”، التي فرخت “الأوليغارشية الأوكرانية” وأخواتها؟  وأن ما سماه الإصلاحات الاقتصادية الجذرية كانت وراء تحطيم مستويات المعيشة لمعظم السكان في روسيا. حيث أدت الى تدهور حاد في الخدمات ومستوى المعيشة وزيادة كبيرة في معدلات البطالة والفساد والتضخم… من مكر التاريخ أيضا، أن بوريس يلتسين، كان من المسؤولين “الروس” القلائل الذين حكموا الاتحاد السوفييتي. وأنه كان أول رئيس منتخب شعبيا لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية في التاريخ بأغلبية 57 ٪ من الأصوات. قبل أن يصبح الاسم الرسمي: الاتحاد الروسي.

بعد ثورة أكتوبر 1917 كان فلاديمير لينين، المولود في مدينة سيمبيرسك الروسية (أصبح اسمها أوليانوفسك بعد وفاته) الشخصية الأقوى في الحزب والدولة، وكان من أهم قراراته، إعطاء حق تقرير المصير لشعوب الإمبراطورية الروسية، بما في ذلك الانفصال السياسي وبناء أمتها الخاصة وفي مقدمتها جمهورية أوكرانيا. وقد وقف ستالين وعدد من قيادة الحزب البلشفي ضد هذا القرار.

 في 30 أغسطس 1918 اقتربت فانيا كابلان، كمناضلة في الحزب الاشتراكي الروسي، وليس باعتبارها يهودية أوكرانية، اقتربت من لينين وأطلقت عليه ثلاث رصاصات أصابته بجروح بالغة. عاش بعدها ثلاث سنوات، لم يتعافى كلياً وكان للرصاصة التي أصابت عنقه أكبر الأثر في انهيار صحته وابتعاده عن السلطة وتسلم يوسف جوغاشفيلي (جوزيف ستالين)، الجيورجي، الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي لمدة ثلاثين عاما  1922- 1952.

بعد فترة انتقال قصيرة، تولى نيكيتا خروتشوف، من عائلة أوكرانية، حكم الاتحاد السوفييتي  من 1953 إلى 1964. ولد نيكيتا خروتشوف في كالينكوفا بمقاطعة كورسك الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسيا وأوكرانيا،  ترقى في مسؤولياته الحزبية حتى أصبح في عام الأمين العام للحزب الشيوعي الأوكراني/ الأوكراني وليس الروسي؟/.  وفي عام 1954 قام خروتشوف بضم دولة القرم لأول مرة في التاريخ إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية. كانت أغلبية سكان القرم من التتار ثم الروس مع أقلية من أوكرانيا. ألا يستحق زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني، الذي وسّع أراضي أوكرانيا بقرار حزبي وسياسي، على الأقل أن لا يختفي اسمه من التاريخ والجغرافيا ؟

ولد الأوكراني ليونيد بريجنيف في 19 ديسمبر/كاون الأول 1906 في مدينة كامنسكوي (دنيبرودزيرجينسك حاليا- أوكرانيا) وقد قاد الحزب الشيوعي والدولة السوفييتية من 1964 إلى 1982.

يوري أندروبوف، الذي تولى الحكم بين 1982-1984 كان من مواليد ناجوتسكوي، ذات الأغلبية التركمانية، والدته Yevgeniya Faynshtein يهودية[1] وأنه كان يعتبر نفسه لا دينيا عند انتسابه للحزب الشيوعي في شبابه.

حتى ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي السوفييتي، نجد في سيرته الشخصية: “ولد في كراي ستافروبول لعائلة روسية-أوكرانية قروية”.

هذا تاريخ حقيقي، لا يمكن لأحد، بتغيير اسم ساحة أو منع تعلم اللغة الروسية أن يمحيه. هذا التاريخ المتداخل من الزواج المختلط إلى الهجرات المتبادلة إلى العيش المشترك والتداخل السياسي والاجتماعي والثقافي… لا يمكن شطبه بعروض مسرحية شعبوية يصفق “أقزام السياسة” فيها بحنكة، أو قصر نظر.

هذا ما ناضلنا من أجله، الإخاء بين شعوب منطقتنا، عرب وكرد وسريان وإيرانيين وأتراك…، لم، ولن نحمل أي من شعوب شرقي المتوسط أوزار حكامهم. وهذا ما نتمناه لكل شعوب العالم…

 في المستقبل و بعد زوال القادة الحاليين ، سيقف في وجه كل المتطرفين القوميين، كل من يؤكد على التضامن الأساسي بين الأوكرانيين والروس وباقي الشعوب… لأنه خلاف ذلك، وكما يؤكد جيجيك: “سوف يترك الأمر لصراع المشاعر القومجية التي تتلاعب بها الأوليغارشية. مثل هذه الألعاب الجيوسياسية لا تهم، بحال من الأحوال، السياسة التحررية الأصيلة”.

———-

مناع كاتب سوري،  درس الأنثروبولوجيا والطب النفسي-الجسدي والقانون الدولي، له أكثر من خمسين كتابا بالعربية والفرنسية والإنجليزية.


author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments