القائمة الرئيسية

الصفحات

لم يكن فيلم الاب الروحي (The Godfather – 1972) مجرد ملحمة سينمائية عن عالم المافيا الإيطالية في نيويورك. بل جاء أشبه بمرآة واسعة تعكس التحولات الكبرى في المجتمع الأمريكي، وتكشف مفارقة لافتة: كيف يمكن لقيم تبدو شرقية في عمقها، مثل مركزية العائلة والوفاء والوفاء بالتقاليد، أن تتداخل مع نظام اقتصادي وسياسي أمريكي لا يرى في السلطة والثراء سوى غايات تُبرر لها كل الوسائل، حتى لو كان الثمن هو شرعنة الفساد ومأسسته.
---
إيطاليا في قلب نيويورك: المهاجرون وصراع الهوية
خلفية الفيلم التاريخية تبدأ مع الهجرات الإيطالية الضخمة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ملايين الإيطاليين هاجروا إلى الولايات المتحدة هرباً من الفقر والبطالة في الجنوب الإيطالي، ليجدوا أنفسهم في قاع المجتمع الأمريكي، يواجهون التمييز العنصري والنظرة الدونية من "الأمريكي الأبيض" البروتستانتي. في هذه البيئة، لم يكن أمامهم سوى بناء شبكات حماية بديلة، تعتمد على رابطة القرابة والدم، ومنها نشأت المافيا كتنظيم اجتماعي قبل أن تكون تنظيماً إجرامياً.
فيتو كورليوني، العرّاب الأول، هو نتاج هذه الظروف: رجل يفرض احترامه بالعدل داخل عالم غير عادل، يمنح الحماية للمحتاجين حين تغيب الدولة، ويقيم شبكة بديلة من "السلطة الشرعية" قائمة على التقاليد الإيطالية ــ قيم القرية القديمة التي لم تذُب تماماً في "بوتقة الانصهار" الأمريكية.


---

أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية: الطفرة والظلال

حين يبدأ الفيلم، نحن في أواخر الأربعينيات. الولايات المتحدة خرجت من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة العظمى الجديدة. الاقتصاد ينتعش، الطبقة الوسطى تكبر، الضواحي تُبنى، والرفاهية الاستهلاكية تصبح الحلم الجديد. لكن في الظل، هناك وجه آخر: صعود الجريمة المنظمة، انتشار الفساد السياسي، وارتباط المال غير المشروع بالاقتصاد "النظيف".

في هذا السياق، رفض فيتو كورليوني دخول عالم المخدرات يبدو كأنه تمسّك أخلاقي وسط موجة جديدة من الانحلال. بينما القمار والدعارة يمكن التغاضي عنهما كـ"شرور مقبولة"، فإن المخدرات تعني مواجهة مباشرة مع سلطة الدولة الفيدرالية، ومع طبقات اجتماعية لم تعد قادرة على التستر على الجريمة. هنا يظهر التناقض: جيل فيتو ما زال ينظر للجريمة كـ"نظام بديل"، أما الجيل الجديد فيمثل الانسجام الكامل مع منطق الرأسمالية الأمريكية حيث كل شيء سلعة، حتى السم.

---

مايكل كورليوني: الوجه الأمريكي البارد

مايكل، الابن الذي بدأ بعيداً عن عالم العائلة، يعود ليقودها بمنطق مختلف تماماً. لا مكان للقيم الشرقية التقليدية، ولا اعتبار للعلاقات الإنسانية. التحول من فيتو إلى مايكل ليس مجرد انتقال زعامة، بل هو تجسيد لتحول أمريكا نفسها: من مجتمع مهاجر يبحث عن الاعتراف، إلى إمبراطورية رأسمالية باردة تحسب كل شيء بمقياس النفوذ والربح.

مشهد النهاية، حين يُغلق الباب على "كي"، ليس مجرد لحظة درامية، بل إعلان عن هذا الانفصال: نهاية الوهم بأن الحلم الأمريكي يترك مساحة للبراءة أو الشرف.
---
الحلم الأمريكي.. مثل أم قناع؟

فلسفة الفيلم تضع المشاهد أمام سؤال جوهري: هل الحلم الأمريكي حلم نبيل يقوم على الكفاح والحرية والفرص المتكافئة؟ أم أنه ممارسة قذرة، مؤسسة على القبول الضمني بالفساد، وتطبيع العنف كأداة للوصول إلى السلطة؟

العرّاب يلمّح أن ما تمارسه المافيا ليس استثناءً، بل نسخة مكثفة من المنطق ذاته الذي يحكم الاقتصاد والسياسة الأمريكية. فما يفعله مايكل كورليوني في الظل، تفعله الشركات الكبرى والمؤسسات السياسية في العلن: بناء إمبراطوريات على حساب الضعفاء، والتعامل مع القانون باعتباره أداة يمكن التلاعب بها.

---

لماذا كان الفيلم صادماً لجمهور السبعينات؟

حين عُرض العرّاب في أوائل السبعينات، كانت الولايات المتحدة في أزمة ثقة. حرب فيتنام أنهكت المجتمع، وفضيحة ووترغيت بعد ذلك بقليل كشفت فساد النخبة السياسية. الجمهور شاهد في الفيلم شيئاً أبعد من مجرد قصة مافيا: شاهدوا صورة أمريكا الحقيقية، حيث "النجاح" مرادف للفساد، وحيث ما يبدو حلمًا مثاليًا يخفي وراءه ممارسة عنيفة وقاسية.


---

الخلاصة

العرّاب ليس فقط رواية عن عائلة إجرامية، بل شهادة بصرية على مفارقة تأسيسية في التاريخ الأمريكي: أن هذا المجتمع بُني على وعود الحرية والفرص، لكنه في العمق لم يتردد في استخدام العنف والفساد والممارسات المظلمة لتحقيق تلك الوعود. ومن هنا يصبح السؤال الذي يطرحه الفيلم اليوم كما بالأمس: هل يمكن أن يكون الحلم الأمريكي بريئًا، أم أن قذارته هي جوهره الحقيقي؟
أنت الان في اول موضوع
author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments