القائمة الرئيسية

الصفحات

هذا المقال لفهمى هويدى تعرض للعبث و الحذف من الادارة في الاهرام مما ادى الى عزوف الكاتب الكبير عن ارسال نقالاته الدورية الى الاهرام و بالصدفة وجدته في بريدى فأسمحوا لى ان اشرككم في قرائته فما امتع القراءة لكاتب بحجم و اسم فهمى هويدى و المقال بأسم دكتوراة للبيع عن بعض الاشخاص الذين يحترفون اعداد الرسائل العلمية للأخرين بمقابل نتيجة فقرهم مع ما يمثله هذا من دليل صارخ على فساد المناخ العلمى و التربوى في البلاد

دكتوراه للبيع / فهمي هويدي

/ هذه فضيحة من العيار الثقيل، تضرب بقوة سمعة مصر الثقافية، وتسلط الضوء على المدى الذي بلغه الفساد حتى طال رأس الهرم التعليمي، وهتك عرض أعلا الشهادات وأرفعها، حتى حولها إلى سلعة مبتذلة تباع وتشترى على أرصفة سوق النخاسة الجديد.
(1) كنت قد كتبت في الأسبوع قبل الماضي عن مأساة التعليم في مصر بمختلف مراحله، وتحدثت عن «الصفر الأكاديمي» الذي انحطت إليه جامعاتنا، حتى أخرجت من قوائم المؤسسات العلمية المحترمة. واستشهدت في ذلك بإعلان نشره أحد أساتذة الجامعات عن استعداده لتوريد الأبحاث العلمية اللازمة للراغبين في الحصول على الماجستير والدكتوراه، وقلت إن هذه ظاهرة تفشت في مصر خلال السنوات الأخيرة. غير أن الأسطر القليلة التي عرضت فيها للمسألة فتحت عليَّ باباً ما تمنيت أن ألج فيه، وكشفت لي وجهاً قبيحاً ما تمنيت أن أراه، ليس فقط لفداحة المعلومات التي توافرت لي، ولكن لان بعضها اسقط من عيني أناساً كنت احسن الظن بهم، حين أقرأ ما ينشر بأسمائهم أو أراهم يتحدثون بثقة وثبات على شاشات التليفزيون، في مختلف شؤون الكون.
أدري أن ثمة ولعاً شديداً بالألقاب في مصر والعالم العربي بوجه أخص. وانه في أزمنة التراجع، وفي العالم الثالث عموماً، لا تقاس قيمة المرء بما يضيفه في مناحي الخير والبناء والمعرفة، ولكنها تقاس بمقدار وجاهته سواء استمدها من مال وفير أو ألقاب كثيرة. فسقراط وأبو حنيفة والعقاد واحمد أمين، لم يحتاجوا إلى ألقاب لكي يثبتوا حضورهم في التاريخ، لكن من دونهم بكثير، ممن ليست لهم أي بصمة على صفحات التاريخ ولن يكون لهم فيه ذكر، هؤلاء يتعلقون بأهداب الألقاب ولا يرون لأنفسهم حضوراً إلا من خلالها.
من خبراتنا عرفنا أناساً اخذوا الدكتوراه بالنية، بمعنى أنهم بدأوا الرحلة فعلاً ولكنهم لم يكملوها لسبب أو آخر. وبين رجال السياسة والإعلام والأعمال نماذج من ذلك القبيل. عرفنا آخرين أضافوا اللقب إلى أسمائهم بالمجان بمجرد دخولهم إلى مجال العمل العام، وهم مطمئنون إلى أن أحداً لن يفتش وراءهم ويكشف الانتحال، وهؤلاء كثر أيضاً. عرفنا كذلك أن البعض اشترى الشهادة من دول أوروبا الشرقية أيام الاتحاد السوفييتي، أو أهديت إليهم لأسباب سياسية (رفاقية). كما عرفنا عدداً من الضباط حرصوا على اقتناء اللقب بعد ثورة يوليو 52، فحصلوا على الدكتوراه التي جرى «تفصيلها» لتتناسب مع الصدارة السياسية التي تبوؤوها، وكان ذلك على سبيل المجاملة في اغلب الأحوال.
تعددت الحكايات في هذا الصدد، وطالت أطروحات الماجستير بطبيعة الحال، وفي هذا وذاك فان الأمر ظل ظاهرة استثنائية في المحيط الأكاديمي المصري.
(2) في إطار المتغيرات السلبية التي طرأت على مصر منذ عصر الانفتاح بوجه أخص، الأمر الذي احدث انقلاباً في منظومة القيم الاجتماعية السائدة، وتآكلاً في تقاليد مختلف المهن، لم تنج الجامعات من أصداء ذلك الانقلاب، وكان من تجليات تدهورها أن ظهرت في مدينة القاهرة وحدها اكثر من عشرة مراكز تتولى إعداد اطروحات الماجستير والدكتوراه للراغبين في مختلف مجالات العلوم الإنسانية. (لم يتح لي أن أتقصى المراكز المماثلة التي تتعامل مع تخصصات الكليات العملية)- وما اعنيه بالمراكز هو تلك المؤسسات التي تتخذ مقار في شقق سكنية، ولها مديرون وجهاز إدارة وفريق من الباحثين الذين يتولون «طبخ» الرسائل المطلوبة. لكن المراكز ليست كل شيء، لان هناك آخرين- ليسوا قلة- يباشرون العمل من «منازلهم». ويستعينون في ذلك ببعض المعاونين، والذين يقومون على تلك الأنشطة هم بعض الأساتذة المخضرمين في الجامعات، منهم رؤساء أقسام ووكلاء كليات.
حين تحريت الأسعار التي تدفع في تلك السوق الخفية وجدتها كالتالي: الدبلوما تتراوح بين ثلاثة وعشرة آلاف جنيه- الماجستير بين 20 و40 ألف جنيه- الدكتوراه بين 40 و60 ألف جنيه. وفي كل الحالات فان السعر يصل إلى حدوده الدنيا أو القصوى حسب طبيعة الموضوع وشطارة الزبون.
الأمر ليس مقصوراً على الاطروحات الجامعية، لان تلك المراكز تقدم خدماتها لأي راغب مطالب بتقديم ورقة بحث لأي مناسبة، ومعظم الندوات التي تقام في منطقة الخليج يعتمد المواطنون المشاركون فيها على أوراق أعدت لحسابهم في القاهرة، وتم شراؤها بقيمة تختلف من بحث إلى آخر.
اكثر من ذلك، وجدت أن مسؤولي المراكز وفروا للبعض كتباً صدرت بأسمائهم دون أن يخطوا فيها حرفاً. وطبخوا لآخرين مقالات نشرت لهم بالصحف والدوريات، ومن هؤلاء أشخاص غير موهوبين أرادوا فقط إثبات الوجود والتطلع إلى الشهرة. مما سمعته في هذا السياق انه بعد الوفاة المفاجئة لأحد كبار الصحفيين، فان واحداً من المنسوبين إلى المهنة طلب من أحد المراكز إعداد كتاب عن الفقيد على وجه السرعة- ولان كله بثمنه، فقد تمت الاستجابة لرغبته، و «طبخت» مادة الكتاب خلال 24 ساعة، ثم صدر بعد أيام «بقلم» صاحبنا المذكور.
(3) مجتمع المافيا الثقافية يعتمد في كل ما يسوقه على جيش صغير من الجنود المجهولين، الذين يقومون بتجميع المواد وصياغتها وتلفيقها، ثم إخراجها في أطروحة أو بحث أو مؤلف يحمل اسماً رناناً. هذا الجيش يأتمر بأمر الأكاديمي المخضرم الذي يدير المركز، ويعقد الصفقات مع الراغبين. وهؤلاء الجنود المجهولون من الشبان عادة، ويشتركون في ثلاث صفات أساسية، أولاها انهم من أبناء الأقاليم الذين يفدون إلى القاهرة بحثاً عن العمل. ثانيتها انهم من الفئات المسحوقة التي هدها الفقر وقسا عليها الزمن. ولان الجوع كافر، فقد اصبح هؤلاء مستعدين لفعل أي شيء يسد الرمق ويسترهم ومن يعولون. ثالثتها انهم موهوبون يتمتعون بذكاء شديد وكفاءة عالية، لكنهم لم يجدوا فرصة طبيعية لاستثمار قدراتهم، فلم يترددوا في أن يبيعوا عرقهم لغيرهم بأي ثمن.
إذا توافرت تلك العناصر في أي شاب، فانه يصبح مرشحاً نموذجياً مطلوباً للمراكز التي نتحدث عنها. لا يهم بعد ذلك أن يكون جامعياً أم لا، أو له صلة بموضوعات البحث التي يكلف بها أم لا.
في رحلة تقصي الظاهرة، تعرفت على واحد من هؤلاء، سأشير إليه بحرف (س) على سبيل الاحتياط. وهو شاب موهوب، ظل متفوقاً على أقرانه طيلة سنوات دراسته، حتى كان الأول على مستوى الجمهورية في امتحان الشهادة الإعدادية. لكن الحاجة حالت بينه وبين التفكير في الالتحاق بالجامعة. فاكتفى بالحصول على دبلوم التجارة المتوسطة، وكان عليه بعد ذلك أن يخوض بسرعة غمار الحياة، ليدبر قوت أسرة مكونة من ثمانية أفراد، مات عائلها في وقت مبكر. طرق الفتى كل باب صادفه، وتقلب في أعمال كثيرة، بدت له مسلسلاً لا نهاية له، حفلت حلقاته بآيات القسوة والجشع والمهانة. أما أبطاله فكانوا نفراً من الأقوياء الذي استخدموا بعض ذوي النفوذ لقهر العاملين لديهم ومص دمائهم.
بعد عذاب دام سنين، عمل (س) فراشاً في أحد المكاتب الصحفية. حيث وجد نفسه في مسار له علاقة بالقراءة والكتابة. وعاش تجربة تعلم فيها أشياء كثيرة، واطلع على بعض خلفيات صناعة النجوم المزيفين. بأم عينيه شاهد ذات مرة حارس البناية، الذي كان بدوره من الفقراء النابهين، وهو يعرض على مدير المكتب محاولاته في كتابة بعض أفكاره التي كتم صاحبنا إعجابه بها، واحتفظ بالمخطوطة في مكتبه. وبعد حين أصدرها كتاباً باسمه، تحول في وقت لاحق إلى مسلسل إذاعي، تصدر مقدمته اسم «الكاتب الكبير»! (للعلم: صدر للكاتب المذكور اكثر من 17 كتاباً لم يضع بصمته في أي منها).
في المكتب تعرف (س) على آخرين، أوصلوه إلى أحد المراكز «الأكاديمية» في مصر الجديدة، وبعدما نجح في الاختبار الأول، خضع مع زملائه لعملية تدريب على كيفية توفير المعلومات من مظانها في الكتب المهمة ومختلف المراجع. وتقدم بسرعة في وظيفته، حتى أتقن كيفية إعداد مشروع الرسالة، وكيف يساعد صاحبها على اجتياز المناقشة التي تسبق عملية تسجيلها. وبعد التسجيل اصبح بمقدوره تلفيق الرسالة وطبخها خلال اشهر معدودة، عن طريق الاقتباس ونقل الفصول والتوصيات من المؤلفات المختلفة، بعد التلاعب في كيفية صياغتها. وهو الفن الذي تعلمه من «الأستاذ» مدير المركز (في بعض الحالات كان ينقل فصولاً كاملة دون تعديل في الصياغة). وطبقاً لتوجيه الأستاذ فانه كان يحضر مناقشة الاطروحات التي يعدها، باعتباره الأدرى بمحتواها، لكي يتدخل لإنقاذ «الزبون» إذا تعثر أثناء مناقشته، وطرحت عليه أسئلة خارج نطاق التلقين الذي تدرب عليه. إذ كان على «الباحث» في مثل هذه الحالة أن يرطن بلهجته المحلية إذا كان عربياً، حتى يعد له (س) الإجابة المناسبة، وبعد ذلك يسقط الباحث أي شيء على الأرض، فيسارع (س) إلى التقاطه ومناولته إياه، وفي المناولة يدس له الإجابة.
لدى (س) حكايات كثيرة حصلها من خبرته في إعداد الاطروحات، وتمريرها بامتياز مع مرتبة الشرف. وكيف أن اكثر تلك الاطروحات لا تقرأ من جانب لجان المناقشة، التي عادة ما يتم اختراقها بتقديم هدايا ثمينة لبعض أعضائها. ولأنه كان الأقرب إلى التفاصيل، فان بحوزته أسماء الأساتذة «المتعاونين» الذين يمررون الاطروحات بعد أن يغمضوا أعينهم عن مضمونها. ولديه معلومات كثيرة عن كيفية ترتيب ذلك «التعاون»، لضمان الفوز بالامتياز مع مرتبة الشرف.
سألت (س) حامل دبلوم التجارة عن عدد الاطروحات التي أعدها خلال سنوات عمله الأربع في المركز، فقال إنها 12 رسالة ماجستير ودكتوراه، أعدها لثمانية أشخاص، نصفهم مصريون والنصف الآخر من أبناء الخليج، ممن اصبحوا يتولون مناصب مرموقة في أقطارهم، أحدهم صار نائب وزير، ورشحته بلاده لأحد مناصب الجامعة العربية.
(4) صاحبنا (س) كان واحداً من ثلاثة، اجتمعت فيهم الأصول الريفية والفقر المدقع والذكاء الحاد. ولأنه كان يحمل شهادة دبلوم التجارة فلم يكن له طموح علمي كبير، وإنما كان مدركاً أن حلمه في دخول الجامعة قد أجهض مبكراً، وظل شاغله الأساسي هو كيفية تدبير نفقات المعيشة لأسرته. ومع ذلك فانه ظل مستشعراً وخز الضمير مما يفعله، فترك العمل عند أول فرصة لاحت له. الثاني كان متخرجاً من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لم يتح له أن يجد وظيفة غير التي حصلها، فاستسلم لقدره، ولا يزال يقوم بعمله في مطبخ المافيا حتى الآن. أما الثالث- اسمه عبدالحميد- فكان أشدهم فقراً وأكثرهم حساسية وأوسعهم اطلاعاً. ولأنه كان مدركاً لكفاءته، فقد ظل معذباً طول الوقت، لأنه كان عاجزاً عن إكمال دراسته العليا بسبب ضيق ذات اليد، في حين كان يعطي ثمار جهده لآخرين من القادرين، مقابل اجر متواضع يتقاضاه، ويقبله مضطراً لأنه يعتبره مالاً حراماً، وفي كل مرة كان يخرج منهاراً وساخطاً من مناقشة الرسالة التي أعدها ونال عليها غيره أعلا درجات التقدير. وكان يضاعف من سخطه اقتناعه بأنه إذا ذلل العقبات التي تعترضه، وقدم الرسالة ذاتها فانه لن يحصل على نفس التقدير المرتفع، بسبب فقره ومظهره البائس، هذا إذا قبل أعضاء اللجنة العلمية أن يحددوا موعداً لمناقشة فقير مثله.
دأب الثلاثة على الالتقاء كل مساء في ركن بمقهى بمدينة نصر، أطلقوا عليه «ركن الفاشلين». وذات يوم افتقدوا عبدالحميد الذي لم يحضر على غير عادته. وحين تقصوا خبره عرفوا انه شهد مناقشة رسالة قدمت لمعهد البحوث والدراسات العربية، كان قد أعدها لأحد الأشخاص. وبعد مداولة اللجنة، قررت منح مشتري الرسالة تقدير الامتياز مع مرتبة الشرف، مع التوصية بطبعها على نفقة المعهد. وكما هي عادته خرج من قاعة المناقشة منهاراً وساخطاً، وبدلاً من أن ينضم إلى زميليه، قادته قدماه إلى أحد الجسور، في قلب القاهرة، حيث ألقى بنفسه في نهر النيل!
ترى، من قتل عبدالحميد؟؟
author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments