ونسـة نووية في طهرانبقلم: فهمـي هـويـــدي
لك أن تتصور كم الأسئلة التي يمكن أن يحملها في جعبته القادم إلي طهران هذه الأيام, من عواصم أخري أخذت بمفاجآتها النووية, ومن ثم تراوحت الأصداء فيها بين الغم والحيرة والحسد. واعترف مقدما بأنني واحد من الحاسدين الذين سرهم الإنجاز, وتمنوا أن يكونوا جزءا منه لا متفرجين عليه.(1) وأنا أضع أسئلتي أمام الدكتور علي لاريجاني أمين المجلس الأعلي للأمن القومي الإيراني(49 سنة) استفسرت منه عن دلالة الإعلان الرسمي عن أن النجاح في تخصيب اليورانيوم تم في اليوم التاسع من شهر أبريل الحالي, وهو اليوم نفسه الذي سقطت فيه بغداد قبل ثلاث سنوات بين أيدي القوات الأمريكية الغازية, وما إذا كان لذلك التزامن رسالة ما, فابتسم الرجل وقال بصوت خفيض: إنها مجرد مصادفة.لم أقتنع تماما برده لعلمي بأن إيران من البلاد التي تجيد الحساب وتتقن اللعب بالأوراق والرموز, فثمة دلالة ليست خافية في أن يعلن الرئيس أحمدي نجاد خبر التخصيب من مدينة مشهد, حيث يرقد الإمام الرضا أحد أئمة الشيعة الاثني عشر, وليست مصادفة أن يتم إشهار الخبر بعد48 ساعة من إعلان الرئيس بوش عن إصراره علي عدم السماح للإيرانيين بأن يمتلكوا التقنية النووية ولا حتي أن يفهموا أسرارها. كما أنها ليست مصادفة أن يعلن الخبر قبل24 ساعة من وصول السيد محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية إلي طهران.لم أعلق علي كلام الدكتور لاريجاني, محتفظا باقتناعي بأن ذلك التزامن لم يكن مصادفة, وأن تلك الوقائع حملت في طياتها حزمة رسائل موجهة إلي عناوين مختلفة, وكان هو من بادرني بالقول حين لقيته بمكتبه في ونسة مسائية كما يعبر السودانيون: دعك من الاستنتاجات, لأن المعلومات هي الأهم الآن, إذ في رأيي ـ والكلام له ـ أن البرنامج الإيراني جري تشويهه بالكامل عمدا في العالم الخارجي, بما في ذلك العالم العربي, لذلك أعتقد أن ثمة أمورا ثلاثة يجب أن تكون واضحة في الأذهان, الأمر الأول أن هذا الذي ينكرونه علينا الآن قبلته الدول الغربية من الشاه قبل نحو أربعين عاما. الأمر الثاني أننا ذهبنا إلي أبعد مدي ممكن في طمأنة المجتمع الدولي, لكن ذلك لم يعجب المتربصين بنا. الأمر الثالث أن لدينا فتوي أصدرها الإمام الخميني تحرم الأسلحة النووية والكيماوية.وجدت أن كل مسألة تحتاج إلي تفصيل, فطلبته منه, ونحيت أسئلتي مؤقتا.(2) كنت أسمع باسم الدكتور علي لاريجاني حين كان شابا متحمسا ضمن السائرين علي خط الإمام الخميني, وهو من أنهي دراسته الجامعية في الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي في عام الثورة(1979), ثم حصل علي الدكتوراه في الفلسفة الغربية من جامعة طهران بعد ذلك, وفي حين اعتبر من شباب الثورة الواعدين, الأمر الذي جعله يتدرج في مناصب السلطة وحرس الثورة بسرعة, فإن أباه آية الله جواد هاشم آملي ظل واحدا من علماء الحوزة العلمية التقليديين في قم. وكان تغيير اسم الأسرة من آملي إلي لاريجاني إيذانا بانطلاق علي وإخوته في ركاب الثورة, واحتفاظ الأب الميرزا هاشم بمسافة منها, ولاعتبارات مفهومة عرفته أكثر حين تولي وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في عام91( بعدما استقال منها السيد محمد خاتمي), ثم حين عين لاحقا رئيسا لمنظمة الإذاعة والتليفزيون, ثم مندوبا للولي الفقيه( السيد علي خامنئي) في مجلس الأمن القومي, ومرشحا لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الأخيرة, إلي أن عين أمينا لمجلس الأمن القومي, ومسئولا عن الملف النووي.وهو يشرح ما عنده قال الدكتور علي لاريجاني: إن كثيرين لا يعرفون أن إيران شغلتها منذ أربعة عقود قضية مصادر الطاقة, لأنها بلد شبه جاف ومصادر المياه فيه محدودة, لذلك فإن أي تفكير في التنمية ظل يطرح مباشرة ملف الطاقة المتوافرة والمطلوبة, وفي عهد الشاه, منذ نحو أربعين عاما, تم توقيع اتفاقية مع الولايات المتحدة لإقامة مفاعل نووي في طهران, وإنشاء معهد للأبحاث النووية, وتدريب الكوادر الإيرانية, إلي جانب استخراج اليورانيوم من المناجم المتوافرة في البلاد.كانت هناك اتفاقية أخري مع فرنسا لإنشاء مفاعل نووي في خوزستان وتخصيب اليورانيوم في إيران, وأنشئت لذلك الغرض شركة باسم أورديف دفعت حكومة الشاه10% من قيمة رأسمالها. كما عقدت اتفاقية ثالثة مع شركة سيمنس الألمانية لإقامة مفاعل في بوشهر للغرض نفسه. وهذه المشروعات كلها إما أنها لم تنفذ, أو أنها لم تستكمل بعد قيام الثورة, الأمر الذي كانت الرسالة فيه واضحة, وهي أن ثمة قرارا ضمنيا من الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة يقضي بمعاقبة الجمهورية الإسلامية في إيران, عن طريق إيقاف نموها وحرمانها من الطاقة النووية التي تحتاجها. وكان رد طهران هو أنه لا بديل عن الاعتماد علي النفس في بلوغ ذلك الهدف, وهو القرار الاستراتيجي الذي دخل حيز التنفيذ مباشرة بعد انتهاء الحرب مع العراق, في عام1990.لم يكن الأمر يحتمل الانتظار أو التسويف, فالإيرانيون يقترب عددهم الآن من سبعين مليونا, وسيصبح تعدادهم مائة مليون في عام2020, والنفط والغاز اللذان نملكهما سينضب معينهما يوما, فضلا عن أنهما لا يوفران لنا الطاقة التي نريدها. والمحطة النووية التي تم إنشاؤها في بوشهر لن توفر بعد تشغيلها سوي5.3% فقط من الطاقة الكهربائية التي تحتاجها إيران, في حين أن20% من الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة يتم تأمينها بواسطة الطاقة النووية( في فرنسا تصل النسبة إلي71%, واليابان27%, وألمانيا28%, وكوريا الجنوبية40%, وبريطانيا23%), وإذا ما تمكنت إيران من تنفيذ برنامجها النووي الذي يستهدف تأمين20 ألف ميجاوات من الكهرباء خلال العقدين المقبلين, فسيكون بإمكانها تأمين نسبة15% من الكهرباء من تلك المحطات, وهي نسبة ستكون منخفضة جدا حينذاك, بالمقارنة بالدول الأخري.(3) حين خاضت إيران غمار التجربة ـ أضاف علي لاريجاني ـ فإنها اعتمدت علي كوادرها الفنية بالدرجة الأولي, وطرقت كل باب يمكن أن يعينها علي بلوغ مرادها, وعبر أحد الوسطاء فإنهم حصلوا علي جهاز للطرد المركزي من العالم الباكستاني عبدالقدير خان, وبرغم أنهم وقعوا علي جميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بضمان سلامة وسلمية النشاط النووي, فإن ذلك لم يشفع لهم وظل الفيتو الغربي مشهرا في وجوههم.كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد شكلت لجنة لإعطاء ضمانات للدول التي لديها مفاعلات نووية لتزويدها بالوقود, وبعد سبع سنوات لم تقدم اللجنة شيئا لأي بلد يتطلع للحصول علي ذلك الوقود( هذا العام قدم الرئيس بوش إلي الهند الصديقة ما تريده في هذا المجال), وهو ما رجح لدي الإيرانيين الرأي الذي يقول بأن الدول الأعضاء فيما يسمي النادي النووي تتجه إلي إنشاء منظمة خاصة بها( علي غرار الأوبك التي تضم الدول المنتجة للنفط) لكي تحتكر بيع الوقود النووي بأسعار خيالية للدول التي ستحتاج إلي مصدر جديد للطاقة في المستقبل.لاحقا طلبت الدول الأوروبية من إيران أن تجمد برنامجها مدة سنتين, مع وعد بأن تقدم إليها الوقود الذي تريده, وهو ما استجابت له طهران, لكنها فوجئت بعد السنتين بأنها لم تحصل علي جرام واحد من الوقود, في حين تلقت وعدا بالانضمام إلي اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة, ووعدا آخر بتوفير الاحتياجات الإيرانية من قطع غيار الطائرات, وكان ذلك دليلا آخر علي سوء النية المبيت, يشهد بأن الدول الغربية تحتال لإطالة أمد تجميد التخصيب.حين عادت إيران إلي استئناف برنامجها, وعملت جاهدة علي إبطال ذرائع المتشككين في طبيعة أنشطتها, فإنها تجاوزت تعهداتها الدولية وسمحت لخبراء وكالة الطاقة الذرية بالوجود المستمر في مؤسسات التحويل والتخصيب. كما أباحت لهم القيام بزيارات متكررة للمواقع العسكرية, في حين ظلت أجهزة التصوير التابعة للوكالة الدولية تسجل وتراقب مختلف الأنشطة في منشآتها النووية, في الوقت نفسه اقترحت طهران إصدار تشريع بحظر إنتاج أو تخزين أو استخدام الأسلحة النووية, كما أعلنت عن القبول بشركاء أجانب في برنامجها لتخصيب اليورانيوم, بل واقترحت إقامة اتحادات إقليمية لتطوير الوقود يضم الدول التي تملك تقنية التخصيب بحيث تظل تلك الاتحادات تحت إشراف وكالة الطاقة النووية, ذلك كله لم يقبل من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية التي أصرت في نهاية المطاف علي نقل ملف إيران النووي إلي مجلس الأمن, تمهيدا لفرض عقوبات عليها, مع التلويح بعصا التدخل العسكري.(4) قلت للدكتور علي لاريجاني: إن الخبراء الغربيين ازدادت مخاوفهم حينما تحدث الرئيس أحمدي نجاد عن تطوير جهاز الطرد المركزي المعروف باسم بي واحد, بما يسمح باستخدام الجهاز بي2 الذي تعادل سعته أربعة أضعاف سعة الجهاز الأول, الأمر الذي يعني اقتراب إيران بأكثر مما كان متوقعا من إنتاج القنبلة النووية, وفي تعليقه علي ما قلت أثار ثلاث نقاط: الأولي أن الذي يملك المعرفة بوسعه أن يصنع ويستخدم أجهزة الطرد1 و2 و3, والخبراء الإيرانيون تتوافر لهم هذه المعرفة الآن.النقطة الثانية أن لدينا فتوي الإمام الخميني التي تحرم إنتاج وتخزين واستخدام أسلحة الدمار الشامل, وقد أصدرها في أوائل الثمانينيات عقب قصف النظام العراقي السابق مدينة حلبجة الكردية بالغاز السام, وما ترتب علي هذه العملية من دمار وخراب يهدر القيم الإسلامية والإنسانية. النقطة الثالثة أن السلاح النووي كان له دوره في إحداث توازن الرعب إبان سنوات الحرب الباردة, لكنه لم يعد يحتل مكانته المتميزة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, وقد أصبحت يقظة الشعوب وإرادتها الحرة هي السلاح الأمضي من القنبلة النووية, وانسحاب إسرائيل المدججة بالسلاح النووي من جنوب لبنان يشهد بذلك.قلت: هل لمست قلقا من إعلان نجاح التخصيب في دول الخليج التي زرتها أخيرا؟ قال: إنه لم يلمس ذلك القلق الذي تروج له بعض الأبواق, وإن أحد وزراء الخارجية قال له ضاحكا: إن بلاده لا يزعجها البرنامج النووي الإيراني, ولكن وجود إيران نفسها كدولة كبري في المنطقة هو ما يقلقها.قلت: أسعار النفط ارتفعت بما قيمته15 دولارا منذ أعلنت إيران عن مفاجأتها وردت واشنطن بتسخين الأجواء ضدها, قال: إن ذلك حدث ونحن لم نفعل شيئا, فما بالك لو فعلنا؟قلت: ما رأيك في الحديث المتواتر عن قصف عسكري أمريكي لإيران؟ قال: إن هذا الكلام لا نأخذه علي محمل الجد, خصوصا بعد الفشل الأمريكي في العراق, والجميع يعلمون أن إيران ليست العراق, وأن اللحم الفارسي شديد المرارة, أما القط الفارسي الذي يضرب به المثل في الوداعة, فإنه حين يضيق عليه الخناق ويراد له أن يحشر في الزاوية, فإنه يتحول إلي مخلوق آخر, خطره يعمل له ألف حساب.هل وصلت الرسالة؟
Comments