القائمة الرئيسية

الصفحات

القضاء أشد الوظائف خطورة

بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء ... أشد الوظائف خطورة
القضاء لغة: الحكم بين الناس، والقضاء شرعاً : فصل الخصومات وقطع المنازعات. والمقصود من القضاء، وصول الحقوق إلى أهلها، وقطع المخاصمة،‏ ووصول الحقوق هو المصلحة، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة، فالمقصود هو جلب تلك المصلحة، وإزالة هذه المفسدة،‏ ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، وقطع الخصومة هو من باب دفع الظلم والضرر.
إذن لا يشك أحد في أهمية القضاء في كل زمان ومكان، فهو كالملح للطعام، لاسيما إن كان القضاة هم العلماء، فلا غنى لبشر عنهم، لأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قضاة أقوامهم، وحكماء دولهم، بهم تزهو الشعوب، وينتشر الخير، ويعم الرخاء، وتزول المدلهمات، وتنقشع الملمات، فهم كالغيث أينما حل نفع. ووجود القضاة مع تزايد أعداد السكان ومع تقدم الحضارة الزائفة، وابتعاد كثير من الناس عن دينهم لهو أحرى وأوجب، لأن الناس يحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم، فلهذا يجب تنصيب القضاة الذين علموا كتاب الله تعالى، وحفظوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعلموا العلم الشرعي المبني على الكتابين الوحيين للسيطرة على أمور الناس، ومنع الظلم، وإعطاء كل ذي حق حقه.
وقد اختلف أهل العلم في أيهما أشد، القضاء أم الإفتاء؟ على قولين:
القول الأول / الإفتاء أشد من القضاء؛ وأرجع أصحاب هذا القول إلى أن الإفتاء يحتاج إلى رد سريع، وبديهة حاضرة، أما القاضي، فإنه يتريث ويتأنى ويتثبت ثم يصدر حكمه، ومن تأنى وتثبت، تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة.
القول الثاني / القضاء أشد من الإفتاء؛ لأن المفتي لا يُلزم أحداً بالعمل بموجبها، وإنما يخبر السائل ويجيبه، والمستفتي إن شاء أخذ بالفتوى، وإن شاء تركها، أما القاضي فإنه يحكم، ويجب الأخذ بحكمه، بحيث يلزم من استفتاه الأخذ بحكمه، ولهذا هو أشد من المفتي.
والصحيح أن كلاهما على خطر عظيم إن لم يتثبتا في حكميهما ويتريثا فيه، فالمفتي والقاضي كلاهما واحد، فكل منهما يحكم بشريعة الله تعالى، والمفتي والقاضي يوقع عن رب العالمين، فالإفتاء: هو بيان الحكم الشرعي دون الإلزام به، أما القضاء: فهو بيان الحكم الشرعي مع الإلزام به، وويل له ثم ويل له إن جار في حكمه، وحاد عن الصواب لأجل دنياً يصيبها، أو نعمة يربها. وكلنا ثقة في قضاتنا ومفتيينا أن يكونوا أهلاً لتلك الأمانة التي أنيطت بهم، وعُلقت على عواتقهم، أن يرعوها حق رعايتها، وأن يحيطوا بها علماً وفضلاً وشرفاً.
القضاء من أشد الوظائف خطورة، وهذه باقة يانعة من كتاب الله جل وعلا، تبين خطورة الإجحاف في القضاء، وخطورة القضاء بين الناس؛ قال تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) [ المائدة 42 ]، وقال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [ المائدة 44 ]، وقال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) [ المائدة 45 ]، وقال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) [ المائدة 46 ]، وقال تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) [ المائدة 49 ]، وقال تعالى (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) [ ص 26 ].
القضاء مهمة شاقة، وأمانة ومسؤولية عظيمة، فمن حملها فكأنما حمل جبال الأرض على ظهره، فإما أن يقوم بحقها، ويكون الله معه، ويُعان على ذلك، وإما أن يخون الأمانة، ويركن للدنيا فتقصم ظهره؟، قال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن لم يقض بين اثنين في تمرة قط ".
وأعجب كل العجب عندما يتولى أحدهم القضاء، وليس لديه من العلم الشرعي إلا بصيص أمل، ولا يتخلق بأخلاق النبي العدنان، ولا يصافح من صافحه، ومنهم من يصافح برؤوس أصابعه، ومنهم من لا يرد السلام ولا يتلكم بكلام، ومنهم من تراه معبساً في مكتبه وفي حيه وفي شأنه كله، أهذا قضاء أم تكبر واستهزاء؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت" [ أخرجه البخاري ]، والأدهى من ذلك والأمر، عندما يدب داء الحسد إلى قلب قاضي طغت عليه حب المادة، وسيطرت عليه الشياطين، فأصبح يصارع الناس ويحقد، ويمتلئ قلبه غيظاً من أجل تحصيل منفعة زائلة، وما يندى له الجبين وتدمع له العين، عندما ترى أحد القضاة يرى المنكر وكأن شيئاً لم يحدث، لا يتفوه بكلمة حق، بل ربما نطق بالباطل، مداهنة وملاطفة لمن حضر. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله مع القاضي ما لم يجُر، فإن جار، تخلى الله عنه، ولزمه الشيطان" [أخرجه الترمذي وابن ماجة]، والطامة الكبرى والمصيبة العظمى، إذا ارتشى القاضي، وحكم للظالم وهضم حق المظلوم، هنا باء بلعنة الله تعالى، وخرج من رحمة أرحم الراحمين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم" [أخرجه الترمذي وابن ماجة].
لقد وردت ترغيبات كثيرة في حق القاضي العادل الذي لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعرف به الحق من الباطل، ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح هذه المرتبة العظيمة، والمكانة الجسيمة، إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيما يخبر، ويكون حسن الطريقة مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، لا يراعي إنساناً لمكانته، ولا أحد لقرابته. ومن صفات القاضي أن يكون ذا عبادة لا يتخلف عن صلاته، مشهور بأنه يساعد الملهوف ويعين ذا الحاجة على قدر طاقته واستطاعته، وأما من كان عكس هذه الأوصاف فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه.
ومما يُراد من القاضي أن يستقبل الناس، ويعظهم ويعلمهم العلم الشرعي، ويبتسم في وجوههم، ويكون قدوة طيبة وأسوة حسنة، يشفع للمساكين ويتوسط للمحتاجين من الأرامل واليتامى، فهو محل ثقة الجميع لأنه يحكم بشرع الله تعالى،فيجمعهم على الخير ويقودهم إلى العز في الدنيا والآخرة، قال عمرو بن مرة لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام يغلق بابه دون حاجة ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته"، فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس [ أخرجه الترمذي وأبو داود] .
ومما يجب على القاضي، أن لا يحكم بين خصمين حتى يسمع كلامهما جميعاً، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول، حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي" [ أخرجه الترمذي]، وينبغي للقاضي أن لا يحكم بين الناس وهو غضبان، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان" [ متفق عليه ]. قال عمر بن عبد العزيز: خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة ـ عيب ـ أن يكون فَهِماً، حليماً، عفيفاً، صليباً، عالماً سؤولاً عن العلم. [ أخرجه البخاري ] . ومعنى الحديث: فهماً أي: فقيهاً، ملماً بالفقه وأحكامه - حليماً أي: يغض الطرف عمن يؤذيه، وينتقد أحكامه، ولا ينتقم لنفسه - عفيفاً أي: بعيداً عن الحرام - صليباً أي: شديداً قوياً على قول الحق، وقافاً عليه، لا يميل إلى الهوى - عالماً أي: بالحكم الشرعي - سؤولاً أي: كثير السؤال عن العلم، لأنه قد يظهر له أقوى مما عنده.
وقال صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ رجل قضى بغير الحق، فعلم ذاك، فذاك في النار، وقاض لا يعلم، فأهلك حقوق الناس، فهو في النار، وقاض قضى بالحق، فذلك في الجنة" [ أخرجه الترمذي]، ومن القضاة من يجحف في الحكم محاباة ونصرة لخصم على آخر، ومن فعل ذلك فقد جار في الحكم، وتعدى حدود الله، وهو في سخط الجبار سبحانه حتى يعود عن غيه وزيغه، قال الله تعالى (وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أعان على خصومة بظلم ـ أو يعين على ظلم ـ لم يزل في سخط الله حتى ينزع" [ أخرجه ابن ماجة]، وعند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان على خصومة بظلم، فقد باء بغضب من الله".
كما أن الشارع الحكيم رتب وعيداً وعذاباً لمن جار في حكمه من القضاة، وضاد الله تعالى في ملكه، فكذلك رتب الشرع أجراً لمن راعى الله تعالى في حكمه، وحكم بشريعة ربه تبارك وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما علمه من كلام أهل العلم العاملين الربانيين، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" [ أخرجه مسلم ]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ، . . . وذكر منهم . . . إمام عادل . . . ] متفق عليه ]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر " [ متفق عليه ]، ففي القضاء فضل عظيم ، لمن قوي على القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجراً على الخطأ الغير مقصود، وأسقط الله عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمراً بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداءً للحق إلى مستحقه، ورداً للظالم عن ظلمه، وإصلاحاً بين الناس، وتخليصاً لبعضهم من بعض.
وللقضاة والمفتيين المخلصين دور كبير فيما يثار بين الفينة والأخرى، فهم محل احترام وتوقير عند الناس، لأنهم يوقّعون عن رب العالمين، ولهم كلمة مسموعة إذا ما رعوا الله واتقوه وأطاعوه، ولم يخشوا أحداً إلا الله، وكانت كلمتهم موافقة لكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يدرءون بها المفاسد، ويقطعون بها ألسنة أعداء الدين ومن يحاربونه، فكلمتهم في هذا الشأن لها صدى كبيراً ووقعاً عظيماً. وأما إذا حكموا حكمًا أو ادعو دعوة عامة في الدين فجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهي عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهي الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر‏ يحكم فيه رب العالمين على لسان النبي الأمين بقوله: "إنّ الله ليملي للكافر حتى إذا أخذه لم يفلته"، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا)‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏].
إنك حين ترى في واقع الذين ظلموا أنفسهم، وابتعدوا عن شرع الله، ما تنشره وسائل الإعلام من أنواع الجرائم وبشاعتها، واستهانتها بالأنفس، واسترخاصها للدماء وانتهاكها للأعراض، وابتزازها للأموال، لقد وصل الحال بهم إلى ما وصل ونحن على الطريق إن اسمرينا بتقليدهم، وإن استمرّ سكوت المفتيين والقضاة والعلماء المخلصين هرج ومرج، واضطراب وفساد. لقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم: "وما ترك أئمتهم العمل بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم " [حديث حسن أخرجه ابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد]، وما أحوجنا إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، لخوض غمار هذه الفتن التي أطلت برأسها، ولا يجدي فيها إلا قطاف رأسها.


author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments