شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
بقلم /رجب عبد الله
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة ...
( شهر رمضان ) سمي الشهر بهذا الاسم : قيل لأنه مأخوذ من رمض الصائم إذا أحرق جوفه من شدة العطش , وقيل : لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة , وقيل : لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والتفكر في أمر الآخرة , وقيل : لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا في شوال قبل دخول الأشهر الحرم . قاله القرطبي .
يخبر الله عباده أنه فرض عليهم صيام شهر رمضان , كما فرضه على الأمم السابقة , لحكمة عليا , وفائدة كبرى وهي إعداد النفس لتقوى الله بترك المباحات , وامتثالا لأمره تعالى واحتسابا للأجر عنده , وسوف نتحدث عن فضل رمضان والصيام فيما بعد .
(الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ):-
أنزل الله على نبيه القرآن في رمضان، قال ابن كثير " يمدح الله تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور, بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه " ا.هـ
فقد نزل القرآن الكريم ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة قال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ... } وقال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }ثم نزل على النبي( صلى الله عليه وسلم ) في ثلاث وعشرين عاما منجما حسب الوقائع والحوادث.
قال ابن عباس " إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة , ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام " فقد أنزل القرآن على النبي (صلى الله عليه وسلم) في شهر رمضان حين جاء جبريل وقال اقرأ في القصة المشهورة .
(هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) :-
هذه صفات القرآن يمدح الله تعالى بها فهو دستور الأمة, ونظام يتمسكون به في حياتهم, فيه النور والهدى والضياء وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها.
قال صاحب الظلال : "والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالدة الذي أخرجها من الظلمات إلي النور ،فأنشأها ،وبدلها من خوفها أمنا , ومكن لها في الأرض , ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة , ولم تكن من قبل شيئا , وهي بدون هذه المقومات ليس أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء" .
(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ):-
هذا النص القرآني هو الذي أوجب الصيام على كل مسلم ومسلمة صياما عينيا , قال ابن كثير :" هذا إيجاب حتميٌ على من شهد استهلال الشهر-أي من كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان , وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة" . فمن حضره الشهر وليس عنده عذر وجب عليه الصيام.
( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ):-
من به مرض في بدنه أو يشق عليه الصيام يجوز له الفطر ويقضي بعد ذلك, ومن سافر مسافة قصر الصلاة يجوز له الفطر ويقضي أيضا, وذلك تيسيرا من الله ورحمة بعباده ولذلك عقب فقال:
{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
فالشريعة الإسلامية مبنية على التيسير وهذه قاعد شرعية جليلة في جميع التكاليف الشرعية حيث كانت المشقة كان التيسير ومنها القاعد الفقهية المشهورة [المشقة تجلب التيسير ]فهذا يسر الدين أما أن نفهم اليسر أن نترك التكاليف الشرعية بالمرة فلا نصوم , أو نؤخر الصلاة عن وقتها دون عذر شرعي ,أو نرتكب المحرمات والموبقات بحجة التيسير , ونقول أن الدين يسر فهذا فهم خاطئ لقواعد الشريعة الإسلامية.
{ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ }
من أفطر في رمضان لعذر شرعي فعليه أن يصوم أياما مكان الأيام التي أفطرها حتى يتم العدة التي أمر الله بصيامها أي يكتب له صيام الشهر .
والصيام نعمة تستحق الشكر والتكبير { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }والتكبير والذكر بعد انقضاء العبادة أمر هام جدا فهو يشعر القلب بالفرحة والسرور والسعادة بعد الصيام , ويشعره بالعزة فلا شيء أكبر منه سبحانه ,فالله أكبر من كل كبير , أكبر من كل عزيز , أكبر من كل قوي فلا نخاف إلا منه, ولا نعبد إلا إياه , نكبره على أن وفقنا إلى صيام رمضان فهذه نعمة تستحق الشكر , ولتفئ القلوب إليه بالطاعة , التي توصل إلى غاية الصيام {لعلكم تتقون}.
وبعد هذه المعاني الإجمالية نتحدث عن فضل رمضان وعن الصيام.
فضل شهر رمضان
رمضان في الأعماق سكناه*** فكيف أنس من في الناس لقياه
رمضان شهر عظيم وموسم كريم , يعظم الله به الأجر ويجزل المواهب , ويفتح أبواب الخير لكل راغب , شهر الفوز بالجنان والعتق من النيران, شهر الخيرات والبركات , شهر المنح والهبات , شهر أوله رحمة , وأوسطه مغفرة , وآخره عتق من النار , شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب***حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ***فلا تصيره أيضا شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهدا ***فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن كان في سلف**من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو ***حيا فما أقرب القاصي من الداني
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة, وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين".
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة (رضي الله عنه ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم من قبلها , خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا , ويزين الله كل يوم جنته ويقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك , وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانون يخلصون إليه في غيره , ويغفر لهم في آخر ليلة , قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله" .
فهذه الخصال الخمس التي أكرم الله بها هذه الأمة في رمضان ليتم عليهم النعمة ويجزل لهم العطاء. ولذلك كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) إذا دخل رمضان يقول :" مرحبا بمطهرنا , فرمضان خير كله , صيام نهاره , وقيام ليله , والنفقة فيه كالنفقة في سبيل الله ".
أراك يا رمضان رحلة مؤمن***ألف الطريق وأنسه بطاح
وأراك حين تجئ توقظ ما غنى**عاما بقلب أثخنته جراح
فإذا بآلاء اليقين تظلني ***وإذا المحبة غدوة ورواح
وإذا أنا روح تحلق في المدى***لسنن يلوح للصفا تياح
فضل الصيام
الصيام من أجل الطاعات , وأفضل العبادات جاءت بفضله الآثار , ونقلت فيه بين الناس الأخبار , فهو سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات, ودخول الجنة والعتق من النار , ففي الصحيحين عن أبي هريرة ( رضي الله عنه) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له من تقدم من ذنبه"من صام إيمانا بالله واحتسب الأجر عند الله تحق له المغفرة بإذن الله. لأن الله اختص نفسه بثواب الصيام وهو الكريم الجواد المنان الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء ففي الصحيحين عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): قال الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجري به , والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم , والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصيام أطيب عند الله من ريح المسك ,للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره , وإذا لقي ربه فرح بصومه ".
والصيام هو العبادة الوحيدة التي جعل الله لها بابا في الجنة لا يدخل منه غير أهل الصيام. روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد (رضي الله عنه ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال:" إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم, يقال: أين الصائمون ؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم, فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد".
أنواع الصيام
الناس في الصيام مذاهب وأنواع, من يصوم عن الحلال ويفطر على الحرام, ومن يصوم صياما صحيحا, ومن يصوم صياما حقا.
النوع الأول: صوم العوام
وهم الذين يصومون عن الطعام والشراب والجماع فقط .ويرتكبون أفظع المحرمات من الغيبة والنميمة , والكذب والخداع والمكر , وسماع الغناء المحرم , وربما لا يصل أو أن يقصر في الصلاة. فهؤلاء أتوا بأقل درجة في الصيام قال بضع السلف :" أهون الصيام الصيام عن الطعام والشراب " فهؤلاء أتعبوا أنفسهم بالجوع والعطش لأن النبي ( صلى اله عليه وسلم ) قال : "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"رواه النسائي وابن خزيمة . وفي البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
قال يحي بن كثير: " يصوم الرجل عن الحلال الطيب ويفطر على الحرام الخبيث ".
رمضان رب فم تمنع عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام
ياليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
وانساك إذ ينساك عن كذب وجور وإجرام
وعن القيام لو أنه فيما يحاوله استقام
رمضان نجوى مخلص للمسلمين وللسلام
تسمو بها الصلوات والدعوات تضرم اضرام
النوع الثاني: صوم الخواص
وهم الذين يصومون عن الطعام والشراب والجماع وسائر المحرمات, فهؤلاء أعلى مرتبة لأنهم تركوا محارم الله, ولله در القائل:
وأهل الخصوص من الصيام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
قال جابر:" إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم, ودع عنك أذى الجار, وليكن عليك سكينة ووقار, ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء "فهؤلاء هم أهل الخصوص في الصيام.
النوع الثالث: صوم خواص الخواص
وهم الذين يصومون عما سوى الله تعالى . فهؤلاء قطعوا نهارهم صياما , وليلهم قياما , نهارهم ذكرا , وليلهم فكرا فكانوا مع الله دوما في الصيام لا يعرفون سواه , ولا تمر عليهم لحظة إلا وهم يتقلبون بين أنوع الطاعات والعبادات.
والعارفون وأهل الأنس صومهم***صون القلوب عن الأخيار والحجب
وهم الذين استغلوا كل لحظة في رمضان ما بين صلاة وقيام وقرآن وذكر وتسبيح واستغفار ودعاء وتضرع , لم يشغلهم عن الله شئ فقلوبهم متعلقة به لا تغفل عن طاعته طرفة عين
كبرت همت عبد ***طمعت في أن تراك
من يصم عن مفطرات*** فصيامي عن سواك
اللهم اجعلنا من أهل خواص الخواص في الصيام وتقبله منا.،
اللهم آمين
Comments