في 1970، كنت عائداً من هانوي. عشتُ قصف الطيران الأميركي. ورأيتُ الفيتناميين يقاومون أكبر قوة عالمية وينتصرون عليها، في وقت كان «الإخوة الكبار»، السوفيات والصينيون، مشغولين على حدودهم بالمشاحنات ذات الطابع الجمركي. بعد رحلتي، خطر لي الذهاب لتفقّد أوضاع الفلسطينيين. وصادف أن جاءتني بفضل صديقي أدونيس، دعوة من إحدى المؤسسات الثقافيّة في بيروت. مساء وصولي، التقيتُ أناساً لم يعجبوني في سهرة مخملية. تم تعريفي إلى «شيوعي» اتضح لي أنه ليس سوى مدّع، قضى السهرة يراقص شقراء لعوباً. وكنتُ أنتظر الانصراف بفارغ الصبر. وفوجئتُ بأن الشخصيتين المتعاليتين هما المكلّفتان بمرافقتي إلى فندقي في سيارة باذخة. ونحن نسير بمحاذاة الشاطئ، تجاوزنا شاحنة متهالكة. وإذا بي أسمع تعليقاً ساخراً: «أولئك الفلسطينيون، يعتقدون أنهم أهل البلد!». كان ذلك الشيوعي الزائف يحاول التذاكي أمام شقرائه الزائفة! كأن رؤية الفلسطينيين في شاحنتهم تمثّل استفزازاً. ذكّرني ذلك بمواقف مشابهة في أوساط المهاجرين في فرنسا، وبعض أحياء تونس الراقية، أثناء حرب الجزائر. في اليوم التالي، استيقظتُ معكّر المزاج. وإذا بالهاتف يرنّ. شخص اسمه حسن حمدان، يضرب لي موعداً لإجراء مقابلة. ما إن وصل، حتى اكتشفتُ من ابتسامته ودفء كلماته، أنني أمام أخ حقيقي. في اليوم التالي دعاني إلى بيته، بين عائلته. ثم سهّل اتصالي بالتنظيمات الفلسطينية. زرتُ معسكرين، واحد لـ «فتح» وآخر لـ «الجبهة الديموقراطية»، وقضيتُ سهرة مع نايف حواتمة، ثم فاتحتُ حسن برغبتي بإيجاد ملاذ ريفي للكتابة. أخذني إلى إحدى بلدات الجنوب، ووجد لي بيتاً في أعالي صيدا. هناك قضيتُ أشهراً في التجوّل وسط الطبيعة وحيداً (...). حين التقيتُ حسن مجدّداً في بيروت، تحادثنا مطوّلا حول تجربته في لبنان، وزيارته الجزائر، القسنطينة تحديداً، إحدى مدن «نجمة». واكتشفتُ أنه قرأ أعمالي بعمق. أُعجبتُ بما يحظى به من صفاء الرؤية وروح الفكاهة واللباقة، فضلاً عن أخوّته المتدفّقة، ونشاطاته النضالية والثقافية. كان بلحيته الكثة يذكّرني بكارل ماركس في شبابه.
لكنه بتواضعه، لم يحدّثني عن أشعاره التي أكتشفُها اليوم فقط، في ترجمة لليلى الخطيب: «كلب يتسكع في الليل وحيداً،/ يبحث عن كلب يتسكع في الليل وحيداً./ يتلكأ عند مكب الاوساخ قليلاً،/ يتوقف احياناً في زاوية ظلماء/ يتبوّل،/ ويستأنف نزهته./ يلمح ظلاً يركض مذعوراً،/ ظلا يترنح/ ظلاً آخر يسقط./ ثقب في جسد الصمت/ ويلتئم الليل على كلب يتأمّل في الليل./ أنا ذاكرة الطرقات/ وأمشي حذراً/ من كل جهات الوقت/ يجيء،/ الشرفات توابيت معلقة/ يطرق باب الصدفة/ لا يخطئ/ تنهدم الافئدة على الافئدة./ الساعة دقت/ رعب الزمن اليومي/ أمد ليدي ليدي/ يرتد صداها./ هذا الليل فضاء للرغبة/ هذا الليل فضاء للموت/ يتمدد كلب في مرآب مهجور/ وينام».
نشعر هنا بتجربة المناضل السري، كما أتصوره، منذ غرق لبنان، تدريجاً، في الحرب الأهلية. كنتُ أتساءل دوماً عن مصير حسن، أخي في النضال والأمل، في قلب العاصفة، خلال الأيام اللبنانية السود. ذات يوم، بينما أنا في سيدي بلعباس، في منفى آخر، داخلي هذه المرة، اتصل بي حسن. قال إنّه كان ماراً بالجزائر العاصمة، وسيغادر في الغد. كنتُ مستعداً لدفع أي ثمن لرؤيته. لكن سيدي بلعباس تبعد عن العاصمة 500 كلم... كنت سعيداً بمحادثته على الهاتف. لم يتغير، رغم مرور 10 أعوام. ثم أطبق علينا الصمت مجدداً لسنين. لغاية اليوم الذي بلغني فيه خبر اغتياله، بعد اغتيال حسين مروة، الذي كتب عنه في أبريل 1987:
«حسين مروة، الرمز البارز للثقافة العربية المعاصرة، سقط برصاصات القتلة. لقد أمرت القوى الظلامية بهذه الجريمة، لأنّه مفكر متنوّر، بينما هي عدوة العقل. إن هذه الجريمة ليست حدثاً معزولاً، بل تندرج ضمن حملة مبيّتة للاضطهاد والقمع والتصفية تستهدف كُتّاباً، مفكرين، أطباء، مدرّسين، وفئات أخرى من المقاتلين من أجل الحرية. هكذا يجد كل مثقف نفسه مستهدفاً، ليس في نشاطه الإبداعي فحسب، بل في حياته أيضاً. إننا ندين هذه الجرائم التي تُرتكب في لبنان ضد المثقفين، ضد الفكر وحرية التعبير. ونتوجه إلى كل المثقّفين، بتعدد توجهاتهم، واختلاف أفكارهم السياسية والروحية من أجل تشكيل محكمة عربية ودولية لمحاكمة قتلة مروة...». في الشهر التالي (18 مايو 1987)، اغتيل حسن حمدان (مهدي عامل) أمام بيته. كل كلمة قالها عن مروة تنطبق عليه. كلاهما سقط بنيران القوى الظلامية. بتصفية حسن حمدان، استهدف القتلة الرجل الذي تصدّى، في كتاباته، لجرح المجتمع اللبناني: الدولة الطائفية. إلى الأصدقاء الحاليين والمستقبليين لحسن حمدان، سلاماً وأُخوّة.
كاتب ياسين (1987)
نشعر هنا بتجربة المناضل السري، كما أتصوره، منذ غرق لبنان، تدريجاً، في الحرب الأهلية. كنتُ أتساءل دوماً عن مصير حسن، أخي في النضال والأمل، في قلب العاصفة، خلال الأيام اللبنانية السود. ذات يوم، بينما أنا في سيدي بلعباس، في منفى آخر، داخلي هذه المرة، اتصل بي حسن. قال إنّه كان ماراً بالجزائر العاصمة، وسيغادر في الغد. كنتُ مستعداً لدفع أي ثمن لرؤيته. لكن سيدي بلعباس تبعد عن العاصمة 500 كلم... كنت سعيداً بمحادثته على الهاتف. لم يتغير، رغم مرور 10 أعوام. ثم أطبق علينا الصمت مجدداً لسنين. لغاية اليوم الذي بلغني فيه خبر اغتياله، بعد اغتيال حسين مروة، الذي كتب عنه في أبريل 1987:
«حسين مروة، الرمز البارز للثقافة العربية المعاصرة، سقط برصاصات القتلة. لقد أمرت القوى الظلامية بهذه الجريمة، لأنّه مفكر متنوّر، بينما هي عدوة العقل. إن هذه الجريمة ليست حدثاً معزولاً، بل تندرج ضمن حملة مبيّتة للاضطهاد والقمع والتصفية تستهدف كُتّاباً، مفكرين، أطباء، مدرّسين، وفئات أخرى من المقاتلين من أجل الحرية. هكذا يجد كل مثقف نفسه مستهدفاً، ليس في نشاطه الإبداعي فحسب، بل في حياته أيضاً. إننا ندين هذه الجرائم التي تُرتكب في لبنان ضد المثقفين، ضد الفكر وحرية التعبير. ونتوجه إلى كل المثقّفين، بتعدد توجهاتهم، واختلاف أفكارهم السياسية والروحية من أجل تشكيل محكمة عربية ودولية لمحاكمة قتلة مروة...». في الشهر التالي (18 مايو 1987)، اغتيل حسن حمدان (مهدي عامل) أمام بيته. كل كلمة قالها عن مروة تنطبق عليه. كلاهما سقط بنيران القوى الظلامية. بتصفية حسن حمدان، استهدف القتلة الرجل الذي تصدّى، في كتاباته، لجرح المجتمع اللبناني: الدولة الطائفية. إلى الأصدقاء الحاليين والمستقبليين لحسن حمدان، سلاماً وأُخوّة.
كاتب ياسين (1987)
حسن حمدان المعروف بإسم مهدي عامل (1936 - 1987) هو مفكر و فيلسوف و ناشط يساري و عضو قيادي فى الحزب الشيوعي اللبناني .
كان عضوا "بارزا" في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1960، وانتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر الخامس عام 1987.
في الثامن عشر من أيار عام 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى جامعته الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. من أقواله "لست مهزوما ما دمت تقاوم". وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من أيار من كل عام "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي".
Comments