الكاتب والروائى الراحل محمد مستجاب والذى كان موجوداً فى موقع بناء السد العالى بأسوان يروى فى مقاله "
ذلك اليوم الرهيب.. أين سيذهب به هؤلاء المؤرخون؟:
ماذا حدث خلال حرب 1967 للعاملين بمشروع السد العالى وانعكاسات أحداث الحرب عليهم.
كتب مستجاب :
«غير أن امورا تحدث للواحد منا، أمورا غير مرئية لكنها مؤثرة، تجعله غير قادر على الهروب أو التأجيل أو المراوغة، تحاصره وتضع أحاسيسه ومناطق تفكيره ورؤاه في مربع مضغوط قد يكون حلما أو ذكري أو مقالا متقن الإنشاء لكاتب مغرض، فيجد هذا الواحد. وهو أنا في هذه المرة – نفسه لا يفكر ولا يأكل ولا يشرب إلا تحت سطوة وهالة مثل هذا اليوم. يوم غريب لم يره أصحاب التدوينات التاريخية باسم التصحيح، ولم يدركه كل ذوي القدرة في الإنشاء التاريخي الحديث، ولم ينتبه إليه من شاهدوه أو لمسوه أو حُكي لهم عنه، يوم يخرج على كل وجهات النظر المطروحة لحساب التعصب لعبد الناصر أو المناوئة المعادية لعبد الناصرّ.
ذلك اليوم الرهيب.. أين سيذهب به هؤلاء المؤرخون؟:
ماذا حدث خلال حرب 1967 للعاملين بمشروع السد العالى وانعكاسات أحداث الحرب عليهم.
كتب مستجاب :
«غير أن امورا تحدث للواحد منا، أمورا غير مرئية لكنها مؤثرة، تجعله غير قادر على الهروب أو التأجيل أو المراوغة، تحاصره وتضع أحاسيسه ومناطق تفكيره ورؤاه في مربع مضغوط قد يكون حلما أو ذكري أو مقالا متقن الإنشاء لكاتب مغرض، فيجد هذا الواحد. وهو أنا في هذه المرة – نفسه لا يفكر ولا يأكل ولا يشرب إلا تحت سطوة وهالة مثل هذا اليوم. يوم غريب لم يره أصحاب التدوينات التاريخية باسم التصحيح، ولم يدركه كل ذوي القدرة في الإنشاء التاريخي الحديث، ولم ينتبه إليه من شاهدوه أو لمسوه أو حُكي لهم عنه، يوم يخرج على كل وجهات النظر المطروحة لحساب التعصب لعبد الناصر أو المناوئة المعادية لعبد الناصرّ.
يوم الاربعاء 7 يونيو 1967 قد جاء محملا بالنذر والشرور والعذاب، ذلك أن صباحه قد أتي بخبر أذاعته محطة إسرائيل – لمن يسمع محطة إسرائيل- وتناقلته الإذاعات الأخري بسرعة معروفة: فقد طلبت إسرائيل من العاملين في مشروع السد العالي إخلاء الموقع كله تمهيداً لضرب محطة كهرباء السد العالي بالقنابل.
لم تكن محطة الكهرباء قد استكملت أركان وعناصر كونها محطة كهرباء، هي مجرد انشاءات في الصخور حول قناة التحويل وداخلها، وهي القناة التى تم شقها في نفق تحت الجبل في جانب لكي تصبح مساقط مياه داخلية تستخدم في تشغيل توربينات توليد الكهرباء. ولم يكن قد تم تركيب أي توربين أو أية أدوات وآلات وتوصيلات فنية..كانت مجرد إنشاء بنائي صخري معظمه في باطن الجبل، ولا يوجد بها إلا معدات البناء والتخريم وتحريك الصخور، وكلها سهلة الإخفاء والتحريك كما أنها لا تتعرض للضرب بأية حال لأنها ليست في منطقة مكشوفة.
وكان من المتوقع أن يلجأ العاملون في المنطقة كلها إلى الهرب بعيدا ولو بالسير على الأقدام، منذ ترديد الإنذار الإسرائيلي صباح ذلك اليوم، حتي أن بعض العاملين أصابته عصبية كاسحة فاعترض على الذين يسمعون الراديو، بل وحدثت مشاجرات أدت إلى تحطيم راديو النادي وراديو مطعم الشركة.
حين حمى العمال محطة كهرباء السد بأجسادهم
في مثل هذه الحالات تنتابني حالة من الانشقاق النفسي لا زلت أدركها وأفهمها، إذ – دائما –أفاجا بنفسي وقد انقسمتُ قسمين: واحد منفعل ويصرخ ويؤكد وينفي، وواحد ينزوي داخلي يرقب ويمعن ويرصد في يقظة جادة وحادة وبالغة الحساسية، ذلك أن الناس الذين اعتقدت أنهم تجاوبوا مع الإنذار الإسرائيلي، والذين تحركوا من المواقع البعيدة مستخدمين سيارات اللوري أو حتي على أقدامهم، وبدون واعظين من التنظيمات السياسية ولا مؤثرين من الاتحاد الاشتراكي، وبدون أي فرد يقود أية جماعة من الخمسة والثلاثين ألفا الذين يعملون في الموقع..الأميون والجهال والذين يفكون الخط والذين يعملون في مختلف الأعمال الفنية أو الترابية أو الهندسية..المظلومون والظالمون وعمال الرمل والزلط والمتخصصون في التفجير وفي قيادة الكراكات والبلدوزرات والسيارات، الذين يعملون في أنفاق الأرض أو على سطحها، الذين في ورديات العمل والذين خارج الورديات، القادرون والعاجزون..الكل تحرك، كل واحد بنفسه ودون دعوة تحرك..إلى أين؟…
إلى مشروع محطة الكهرباء، تلك الواقعة في نفق التحويل، وفي عز لهيب يونيو المشتعل في منطقة أسوان، «حيث الشمس عمودية على مدار السرطان الذي تقع المنطقة فيه»، الكل يتحرك يزأر ويصرخ ويبكي ويلعن، ثم يجلس على فتحة محطة الكهرباء، حول الفتحة الواسعة وعلى شفتيها وعلى أصداغها وتحت أنفها وفوق هامتها، كل منطقة محطة كهرباء السد العالي، سواء ما كان منها داخل النفق أو خارجه أصبح محتميا بأجساد كل العاملين في السد العالي، منذ التهاب الظهيرة في الصخور والرمال والزلط والحديد المسلح، ودون أن يمر أحد بين كل هذا الحشد الذي يعلو على أي مشهد، ليبيع الشاي والمعسل والطعام والماء، أجساد فقط تتحرك في حدود أن يجد كل جسد المساحة التى تصلح مستقرا ساخنا ودون اعتبار لما قد يدور في الذهن- وقد دار بالفعل الجزء المنشق مني: ماذا يمكن أن تفعل هذه الأجساد العزلاء إزاء قنابل الفانتوم والميراج؟!
يدور هذا في العقول دون أن يتجرأ أحد ويعلنه جهرا..يكفي هذا الشعور الجمعي الذي هيمن على الناس بمختلف قدراتهم ووعيهم وإدراكهم، أن هذا المشروع هو ملك للناس، وليس لأحد آخر حتي ولو كان عبد الناصر ، لم يقولوا ذلك لكنهم فعلوه.وقد ظللنا ننظر إلى السماء طوال ذلك النهار الملتهب، ثم عندما حل الليل، حيث لم يغادر أحد مكانه، حتي آخر الليل، ودون اضطراب لظهور طائرات اقتربت أو ابتعدت، لقد ظل المشهد الرهيب رهيبا.
دعنا الآن مما حدث في اليوم التالي، أو الذي تلاه أي يوم تنحي عبد الناصر وما كتبه المحللون والقوالون والخباصون والزاعمون أنه حدث – بتأثير من قيادة التنظيم السياسي – ودعنا أيضا مما حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في 28 سبتمر 1970 يوم رحيل عبد الناصر نفسه، إذ أن العاطفة قد لعبت دورا فيه قبل أي تنظيم سياسي بالتأكيد. أما ما حدث يوم الانذار بتدمير محطة كهرباء السد العالي فقد كان خارج قدرات العاطفة والانفعال وأيه تنظيمات معروفة في التاريخ..لقد كان يوما رهيبا وعظيما، وأعظم ما فيه أن كافة الكتّاب لم يدركوه، ولم ينتبهوا له، لأنه خارج قدراتهم المحدودة أيضا…
------
محمد مستجاب
لم تكن محطة الكهرباء قد استكملت أركان وعناصر كونها محطة كهرباء، هي مجرد انشاءات في الصخور حول قناة التحويل وداخلها، وهي القناة التى تم شقها في نفق تحت الجبل في جانب لكي تصبح مساقط مياه داخلية تستخدم في تشغيل توربينات توليد الكهرباء. ولم يكن قد تم تركيب أي توربين أو أية أدوات وآلات وتوصيلات فنية..كانت مجرد إنشاء بنائي صخري معظمه في باطن الجبل، ولا يوجد بها إلا معدات البناء والتخريم وتحريك الصخور، وكلها سهلة الإخفاء والتحريك كما أنها لا تتعرض للضرب بأية حال لأنها ليست في منطقة مكشوفة.
وكان من المتوقع أن يلجأ العاملون في المنطقة كلها إلى الهرب بعيدا ولو بالسير على الأقدام، منذ ترديد الإنذار الإسرائيلي صباح ذلك اليوم، حتي أن بعض العاملين أصابته عصبية كاسحة فاعترض على الذين يسمعون الراديو، بل وحدثت مشاجرات أدت إلى تحطيم راديو النادي وراديو مطعم الشركة.
حين حمى العمال محطة كهرباء السد بأجسادهم
في مثل هذه الحالات تنتابني حالة من الانشقاق النفسي لا زلت أدركها وأفهمها، إذ – دائما –أفاجا بنفسي وقد انقسمتُ قسمين: واحد منفعل ويصرخ ويؤكد وينفي، وواحد ينزوي داخلي يرقب ويمعن ويرصد في يقظة جادة وحادة وبالغة الحساسية، ذلك أن الناس الذين اعتقدت أنهم تجاوبوا مع الإنذار الإسرائيلي، والذين تحركوا من المواقع البعيدة مستخدمين سيارات اللوري أو حتي على أقدامهم، وبدون واعظين من التنظيمات السياسية ولا مؤثرين من الاتحاد الاشتراكي، وبدون أي فرد يقود أية جماعة من الخمسة والثلاثين ألفا الذين يعملون في الموقع..الأميون والجهال والذين يفكون الخط والذين يعملون في مختلف الأعمال الفنية أو الترابية أو الهندسية..المظلومون والظالمون وعمال الرمل والزلط والمتخصصون في التفجير وفي قيادة الكراكات والبلدوزرات والسيارات، الذين يعملون في أنفاق الأرض أو على سطحها، الذين في ورديات العمل والذين خارج الورديات، القادرون والعاجزون..الكل تحرك، كل واحد بنفسه ودون دعوة تحرك..إلى أين؟…
إلى مشروع محطة الكهرباء، تلك الواقعة في نفق التحويل، وفي عز لهيب يونيو المشتعل في منطقة أسوان، «حيث الشمس عمودية على مدار السرطان الذي تقع المنطقة فيه»، الكل يتحرك يزأر ويصرخ ويبكي ويلعن، ثم يجلس على فتحة محطة الكهرباء، حول الفتحة الواسعة وعلى شفتيها وعلى أصداغها وتحت أنفها وفوق هامتها، كل منطقة محطة كهرباء السد العالي، سواء ما كان منها داخل النفق أو خارجه أصبح محتميا بأجساد كل العاملين في السد العالي، منذ التهاب الظهيرة في الصخور والرمال والزلط والحديد المسلح، ودون أن يمر أحد بين كل هذا الحشد الذي يعلو على أي مشهد، ليبيع الشاي والمعسل والطعام والماء، أجساد فقط تتحرك في حدود أن يجد كل جسد المساحة التى تصلح مستقرا ساخنا ودون اعتبار لما قد يدور في الذهن- وقد دار بالفعل الجزء المنشق مني: ماذا يمكن أن تفعل هذه الأجساد العزلاء إزاء قنابل الفانتوم والميراج؟!
يدور هذا في العقول دون أن يتجرأ أحد ويعلنه جهرا..يكفي هذا الشعور الجمعي الذي هيمن على الناس بمختلف قدراتهم ووعيهم وإدراكهم، أن هذا المشروع هو ملك للناس، وليس لأحد آخر حتي ولو كان عبد الناصر ، لم يقولوا ذلك لكنهم فعلوه.وقد ظللنا ننظر إلى السماء طوال ذلك النهار الملتهب، ثم عندما حل الليل، حيث لم يغادر أحد مكانه، حتي آخر الليل، ودون اضطراب لظهور طائرات اقتربت أو ابتعدت، لقد ظل المشهد الرهيب رهيبا.
دعنا الآن مما حدث في اليوم التالي، أو الذي تلاه أي يوم تنحي عبد الناصر وما كتبه المحللون والقوالون والخباصون والزاعمون أنه حدث – بتأثير من قيادة التنظيم السياسي – ودعنا أيضا مما حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في 28 سبتمر 1970 يوم رحيل عبد الناصر نفسه، إذ أن العاطفة قد لعبت دورا فيه قبل أي تنظيم سياسي بالتأكيد. أما ما حدث يوم الانذار بتدمير محطة كهرباء السد العالي فقد كان خارج قدرات العاطفة والانفعال وأيه تنظيمات معروفة في التاريخ..لقد كان يوما رهيبا وعظيما، وأعظم ما فيه أن كافة الكتّاب لم يدركوه، ولم ينتبهوا له، لأنه خارج قدراتهم المحدودة أيضا…
------
محمد مستجاب
Comments