القائمة الرئيسية

الصفحات

نصف قرن من التحولات فى مصر الآثار والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية


نصف قرن من التحولات فى مصر
الآثار والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية
الأستاذ الدكتور / فوزى عبد الرحمن(1)               
                    
التحولات :-
مرت مصر بالعديد من الأحداث خلال النصف الثانى من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، فخاضت ثلاثة حروب وانتقلت بين أيديولوجيات اقتصادية متباينة ومتناقضة، وكان لهذه الأحداث تأثير الصدمات على المجتمع والإنسان المصرى، فقد أفضت هذه الأحداث إلى تغير المجتمع، إلا أن التغير الذى حدث غلب عليه سمة التغير التلقائى وغير المخطط بمعنى أنه لم يكن ينطوى على توجهات واضحة ومحدده وغير خاضعة لإستراتيجيات توجهه، كما كانت قرارات التحول سريعة، ومتلاحقة وهو أمر أفقد المجتمع توازنه فى استيعاب هذه التحولات، فالمسافة الزمنية بين قرارات التحول الاشتراكى وإدارة الدولة لمرافق الاقتصاد إلى الانفتاح الاقتصادى والحرية الاقتصادية لم تتجاوز خمسة عشر عاما، وبين الانفتاح الاقتصادى والخصخصة لم تتجاوز الأعوام العشرة، وهى فترات كاللحظات فى عمر المجتمعات وفى إحداث التغير فيها، وقد تزامنت هذه الأحداث مع موجات للهجرة إلى منابع النفط، ومع تغيرات فى ميزان القوى العالمية، حيث آلت السيطرة والهيمنة إلى القطب الرأسمالى وفرض ثقافته على مجتمعات الاستقبال . وفى هذا الزحم من الأحداث زادت ديون مصر، وتعثرت الجهود السياسية فى النهوض بالمجتمع ولم تلتفت النظم السياسية إلى إعداد الإنسان المصرى ليواجه التحديات الداخلية والخارجية من خلال مشروع قومى يكون مشاركا وفاعلا ومؤثرا فيه بل استسلمت بلا إرادة واعية لهذه المؤثرات .
الآثار والتداعيات :-
        لم تكن تداعيات هذا التحول على الجانب الاقتصادى فحسب بل تجاوزته لتلتقى بظلالها على الإنسان المصرى وعلى أسلوب حياته وعلى منظومته القيمية، فقد أدت هذه التحولات إلى إصابة البنية الاجتماعية بالخلل فتآكلت الطبقة الوسطى والتى كان لها الفضل دائما فى تحقيق التوازن الاجتماعى والحفاظ على القيم وعلى الهوية المصرية، كما أجهزت رياح الغزو الثقافى التى هبت على المجتمع المصرى على جانب كبير من منظومة القيم فتهالك جزء كبير منها، ولم تعد تحقق دورها فى ايجاد حدود دنيا الاشتراك بين أفراد المجتمع، فضاقت دوائر التفاعل، وزادت مساحات الاختلاف والتى أفضت إلى الخلاف، وتوارت قوى اجتماعية لتظهر مكانها قوى اجتماعية جديدة ذات سمات وخصائص مختلفة كل سعيها هو تحقيق مصالحها، واستأثرت القوى الجديدة بالثورة والسلطة استوعب الواقع الجديد فقراء جدد، وزادت مسافة تهميش بعض القوى الاجتماعية التى يمكن أن تكون فاعلة ومؤثرة إذا استمرت طاقاتها كالشباب والمرأة، وزادت معدلات البطالة، وضعفت روابط الإنتماء بين أفراد المجتمع، واستغرق الأفراد ومنهم فى السعى للحصول على الحاجات الأساسية، وأصيبت مؤسسات الدولة أو المجتمع بالهرم فتخلف التعليم عن إجلاء ملكات الإبداع لدى أبناء المجتمع، واصبحت المدارس مكانا للايواء النهارى وسبيلا للحصول على راد الدروس الخصوصية كما أصبحت المؤسسات الصحية وكأنها أبنية فارغة من محتواها لا يجد فيها قاصدها إلا المعاناة والإحساس بالضياع وتركت الدولة الأفراد فى مواجهة هذه المشكلات دون تدخل، وبدأ المجتمع فى حالة من اللامعيارية التى أشار إليها عالم الفرنسى أميل دور كايم . وفقد الأفراد الثقة فى الدولة لطول الإنتظار فى حدوث انفراجه لهذه المشاكل والأزمات .
        وزاد الجدل بين الأفراد حول الكثير من المسلمات والتى فقدت مصداقيتها فى كل هذه الظروف.
الإنسان المصرى من صمت الاحتجاج إلى صخب التعبير :-
مضى ستة عقود على ثورة يوليو 1952 المجيدة وسنتان على ثورة 25 يناير 2011، وما بين الفترتين تلاحقت الأحداث كما ذكرنا وشهدت البدايات المبكرة للثورة والسنوات التى تلتها إنجازات هائلة على الصعيدين السياسى والاجتماعى، الإ أن الحكومات المتعاقبة أغفلت بعدا هاما وهو إعداد الإنسان المصرى ليتولى مسئولية إدارة شئون المجتمع، فاستأثرت مجموعة محدودة بالسلطة وباتخاذ القرارات ربما بوعى منها أو بغير وعى، الإ أن ذلك أدى إلى اعتياد الأفراد على يكونوا مستقبلين للاحداث لا فاعلين فيها أو مشاركين، ولكن متحملين نتائج هذه الأحداث، ودافعت القوى السياسية عن وجهة نظرها وانفرادها بالسلطة، وساند هذا التوجه أصحاب المصالح من هذه الأوضاع، والذين اتسع نفوذهم فى ظل غياب الرقابة المجمعية على تقاليد الأمور، وجدير بالذكر أن أصحاب المصالح كانوا يختلفون من فترة لأخرى وفق توجهات النظم الحاكمة، والتفت  الغالبية العظمى من أبناء المجتمع المصرى بالاحتجاج الصامت احيانا والمعلن على استحياء أحيانا أخرى، وكذلك ذلك كفيلا باغتيال الديمقراطية ووأدّها فى مهدها، وحصار المشاركة الجماعية، فقد شعر الإنسان المصرى أنه ليس شريكا فى إدارة أمور مجتمعة وأن الغلبة أو الرأى فى النهاية ليس له، وعبرت صناديق الاقتراع عن ذلك فكانت تذهب إلى اللجان فارغة وتخرج ممتلئة دون أن يشارك أحد . وقفز إلى المشهد من لا يمتلك مقومات التأثير، وتوارى من يمتلك مقومات التأثير، استشرى الفساد فى جسد المجتمع، وتعقدت الأمور على المستوى الاقتصادى، فتراكمت الديون، وزادت الاختناقات وامتلكت قلة من الأفراد الثروة والسلطة، وغابات استراتيجيات فى الوقت الذى كانت فيه المجتمعات تسابقه الزمن لتحقيق الإنجازات وتحدى المشاكل التى تواجهها.
فى الوقت الذى بات الظلام فيه داكنا ومن رحم هذه التحولات وتداعياتها ولدت ثورة 25 يناير واستبشر أبناء المجتمع من اليائسين الذين طال يأسهم بانفراجه الموقف السياسى والاجتماعى، وسالت دماء الشهداء الأبرياء لتغسل فساد السنين الطويلة، وعلى الرغم من ذلك لم تجادل القوى السياسية التى ظهرت بالمشهد السياسى الجديد أن تتجاوز مصالحها المحدودة إلى مصالح المجتمع المصرى وتمسك كل فصيل بنصيبه من التركة السياسية، وتصارع الجميع، واتلف الجميع، وكما غابت استراتيجية إدارة المجتمع عبر العقود الستة التى تلت ثورة يوليو 1952، بدأت الحياة بعد ثورة يناير 2011 بلا رؤية استراتيجية لإرادة المجتمع . فلم نسمع عن كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية رغم رفعها كشعار فى 25 يناير، ولم نسمع عن كيفية مواجهة مشكلة الفقر، ولم نسمع فى مسعى القوى السياسية عن كيفية إنقاذ مصر من الإفلاس ولم نسمع عن مواجهة أزمة الديون المتراكمة وتدفقت الأعمال فى الكثير من الوحدات الصناعية، وتزعزع الأمن .
        ولم نسمع عن تكوينات اجتماعية تسعى إلى زراعة الصحراء أو تكوينات اجتماعية تدعو إلى العمل المتواصل لإنقاذ مصر من كبوتها . وتساءل الجميع عن السبيل إلى الخروج من هذه الكبوة، وعاد الأمر إلى استئثار القلقة بالسلطة وتهميش القوى الاجتماعية الأخرى وزادت من جديد الاختناقات والقلق والمشكلات، وكأنما أصبح كل ذلك من قدر الإنسان المصرى لا يستطيع الهروب، وشككت الفصائل فى نوايا بعضها، وزادت الاتهامات فيما بينها ويبدو أن شبح سنين الفساد مازال يلقى بظلاله على وجه الحياة بالمجتمع المصرى فقد استثمر ما أورثته هذه السنين من سلبيات فى بناء الشخصية المصرية لضعف الإنتماء وفقدان الثقة فيمن يتصدر المشهد السياسى أيا كانت توجهاته، وتزعزعت الثقة فى كثير من المفاهيم كمفهوم الدين لله والوطن للجميع وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية فخلاف الرأى قد يفضى إلى الخلاف وإلى إراقة الدماء . وختاما لابد أن يتناسى أبناء المجتمع من القوى السياسية خلافاتهم من أجل هدف أسمى وهو مصر، أو بعبارة أخرى تتحرك القوى الاجتماعية فى إطار من الوعى بمصالح مصر والأ تترك الأمور للصدفة تتحكم فيها . فمصرنا تنوء بالمشاكل وتئن من الآلام وتحتاج إلى مخلصين يخرجونها من هذا المنعطف .



(1)  أستاذ علم الاجتماع والإنثروبيولوجيا- كلية البنات - جامعة عين شمس 

author-img
ماذا اقول عن نفسى غير ما اريد الا يعلمه احد عنى فأن انت سألتنى عن نفسى فأن ما تسمعه منى ليس ألا ما استطيع ان أقوله فهل تستطيع ان تسمع ما لا اقوله لك ؟

Comments