كتب يقول عن الجغرافيا و السياسة
لماذا يهوى الجغرافيون الدين والقومية والاستعمار؟!
أتاحت وسائط التواصل الاجتماعي أن نرى صفحات لكبار أساتذة الجيولوجيا والجغرافيا على الفيسبوك. ويدهشك في كثير من هذه الصفحات نزوعنا فيها نحو الدين والتصوف أو مفاهيم الوحدة الإسلامية أو العروبية.
ما علاقة الجغرافيا والجيولوجيا في عالمنا العربي بالدين وتجلياته على الخريطة؟ دعنا نجرب جمع هذه المشاهد المتفرقة معا:
(1) الجغرافيا والكنيسة
لم يكن العالم العربي بدعا من الحضارات في تأثر كثير من الجغرافيين بالدين، فلابد أن نعود إلى عدة قرون مضت حين شهدت أوروبا نفس التجربة وقتما كان هناك ارتباط عضوي بين الجغرافيا والكنيسة.
ومرد ذلك أن الكنيسة هي أول من قام بتدريس الجغرافيا لعوام المؤمنين. لم يكن ذلك حبا في علم الجغرافيا بل استغلالا لمعرفة الأرض والكون والفلك، وفي هذه المعرفة دلالة على تبجيل الرب الخالق العظيم.
ويمكن ربط سلوك الكنيسة في العصور الوسطى بحضارة مصر في أقدم العصور. لقد كانت الحضارة المصرية سباقة في ربط الجغرافيا بالدين، بل إن حضارة مصر القديمة هي أول من اخترع جغرافية الآخرة ومشاهد ما بعد الموت ومواقع الجنة والنار وبعضها مرسوم على توابيت دير البرشا في المنيا.
لا يمكن للدين أن ينشأ من دون جغرافيا، الجغرافيا هي علم المكان والدين يترعرع في الأماكن، والآلهة تستمد نفوذها من "السيطرة" على الأماكن أو منحها "البركة والحراسة".
في واحدة من ترانيمه المدهشة يشدو المبدع المصري الكبير "ماهر فايز" بترنيمة مسيحية عنوانها "أيها الفخاري الأعظم" واصفا الله في خلقه للإنسان. هذا الفخاري يقابل في الإسلام خلق الله للإنسان من طين ويقابل نفس الصور المرسومة على جدران معابد إدفو وإسنا من أن الخالق الرب يقف على عجلة الفخاري يخلق البشر في ورشة الطين الذي جلبه نهر النيل، فيخرج البشر من عجلة الفخاري إنسانا وراء إنسان.
يقول ماهر فايز بصوته الشدي الندي " أيها الفخاري الأعظم، أنا كالخزفِ بين يديك، عد واصنعني وعاء آخر ، مثلما يحسن في عينيك"
(2) الجغرافيا والاستعمار
نفر كبير للغاية من الجغرافيين خدموا الاستعمار، بل إن هتلر في عدوانه على العالم لم يكن له أن يحقق ذلك من دون جغرافيين مهرة وعلماء خرائط حاذقين.
لا يشعر الجغرافي المتماهي مع الاستعمار بأي مشكلة أخلاقية ما دام يؤمن بعقيدة الإمبراطورية. خذ عندك جغرافي انجليزي شهير قدم للجغرافيا المصرية أهم مما قدمه عدد كبير من الجغرافيين المصريين وأعنى به "جون بول" الذي كتب بحوثا ودراسات مدهشة عن مصر طيلة أربعين سنة كانت كلها تخدم الاستعمار الانجليزي وإعلاء شأن الإمبراطورية البريطانية في مصر، ولم تكن مصر في الحقيقة ذات هدف عبقري في حد ذاتها للاحتلال البريطاني بقدر ما كانت قناة السويس: بوابة العبور إلى درة التاج في "الهند".
لم تعرف دولنا العربية هذا النموذج بمعناه الصلب وإن عرفته بمعناه الناعم. فمثلا أشاع جمال حمدان مديحا للعروبة والناصرية والقومية العربية، وقد فعل غيره في عدة بلاد عربية ذلك، من منطلق توسع ناعم للفكرة القائمة على الوحدة أكثر ما هي قائمة على الاستعمار.
ولو أتيحت الفرصة لجغرافيين أصحاب هوى إسلامي لرأينا عددا منهم يصيغ نظرية محكمة حول ضرورة الخلافة الإسلامية باعتبارها شكلا ضروريا للوحدة.
ولعل جمال حمدان في حديثه عن القومية العربية وهجومه على الخلافة الإسلامية كان مدعاة للدهشة لأنه استخدم نفس مبررات الخلافة الإسلامية في احتفاله بالقومية العربية.
(3) الجغرافيا والنظرة الوحدوية
الجغرافيا علم الأقاليم والوحدات الكبرى أكثر منه علم التفاصيل والوحدات الفرعية. لا يمكن لجغرافي ذي شان أن يبزغ في تخصص إلا ويختم رحلته برؤية أو نظرية "شمولية "كلانية" ولكي يفعل ذلك فعليه أن ينظر إلى الخريطة الأوسع التي تضم موارد وثروات وقدرات بشرية لا تتوفر لدولة واحدة صغيرة.
ودون أن يشعر، يجد هذا الجغرافي نفسه متماهيا مع أفكاره ومندمجا معها ومتواجدا فيها، حتى لنظن أنه صاحب هوى وحدوي او قومجي او إسلامجي.
(4) الجغرافي والعدالة الاجتماعية
في العهد الملكي والعقد الأول من العصر الجمهوري كان التعليم للأغنياء والصفوة والطبقة فوق المتوسطة. وقد حصل هؤلاء على فرص رائدة للفوز بالتعليم الجامعي والعمل أساتذة للجامعات. وسافر هؤلاء في بعثات إلى دول أوروبية وأميركية ومن ثم عادوا وهم أبناء هذه الثنائية: حياة المدينة البرجوازية + الانتماء إلى الحضارة الغربية.
قام هؤلاء بالتدريس للأجيال التالية، ومع توسع مجانية التعليم وانتشار الجامعات وضعف البعثات انضم لدراسة الجغرافيا أبناء الريف ذوي الخلفية الدينية الفقيرة وأصبحوا أساتذة للجامعات وحملوا معهم ثلاث قضايا كبرى:
- المعاناة من الفقر والتهميش والسعي للعدالة الاجتماعية، وغالبا ما يكون الدين هو أول إغراء بتحقيق العدالة الاجتماعية
- الشعور بالانتقاص أمام الذين سافروا وأصبحوا وزراء وعلية القوم وحصدوا مبكرا كل فرص التميز وتركوهم في أدنى السلم بعد أن جفت الينابيع.
- الاضطرار للسفر إلى الدول الخليجية تاركين الوطن المصري رغبة في إصلاح حالهم المالي. وهناك تكرست لديهم أكثر النزعة الدينية، ليس بسبب التفسير الساذج الذي يقوله الحمقى من أن الوهابية لحست عقولهم، بل للارتباط الشرطي بين وفرة المال وراحة الحياة وكرم المعيشة وأجواء التدين. ولاحظ هنا انها نقيض لحال الفقر في الريف المصري حيث شظف العيش وقلة المال. ولاحظ هنا أن أغلبهم حين يعود بعد 10 سنوات من الإعارة تتراجع عنده قضايا العدالة الاجتماعية بعد أن يسكن في التجمع الخامس أو أكتوبر او الرحاب، ويحل محل العدالة مفاهيم أخرى مثل "الإحسان" والتصدق" ومساعدة الفقراء عن بعد.
(5) جغرافيا منزوعة الدسم
رأينا كيف أن جيل الخمسينيات والستينيات قد فاز بثنائية البرجوازية والتعليم الغربي بينما جيل السبعينيات والثمانينات قد جاء من عمق الريف المحافظ المتدين وحرم من البعثات واضطر للإعارة خارج الوطن.
أما الجغرافيين الذين تخرجوا منذ التسعينيات وإلى اليوم فهم شريحة ثالثة ليس لديهم في الأغلب مفاهيم القضايا الكبرى، ولا تشغلهم غالبا أية نظريات وحدوية: لا دينية ولا قومية ولا عروبية ولا غيرها. يمكنك أن تعتبرنا نحن أبناء هذا الجيل "جغرافيين منزوعي الدسم".
وسبب ذلك أن الجغرافيين من أبناء هذه الشريحة وقعوا في فخين كبيرين:
- الانخراط في التقنيات الحديثة التي تحمل اسم الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية، والتي صارت لغة العصر المعتمد على الحاسب الآلي وإصدار الجغرافيا الرقمية بخرائط ملونة حديثة. ولكن من أسفٍ أن ذلك جاء على حساب فهم الجغرافيا الحقة باعتبارها علم التفاعل المكاني القائم على أرض الواقع والمشتبك مع قضايا المجتمع الإنساني لا الغارق في الأرقام والخرائط الصماء.
- انقطاع الإعارات لدول الخليج والسعودية تقريبا، وبدلا من أن تقوم الجامعات بتوفير رواتب كافية كريمة تناسب غلاء المعيشة إذ بها تتركهم للتجاوز في حق أنفسهم وحق طلابهم ببيع الكتب والمذكرات حتى لا تضطر إلى رفع رواتبهم، ومن ثم غرقت هذه الشريحة في مشاكل كبيرة للغاية وهي التدريس لأعداد هائلة من الطلاب يتخرجون بالآلاف وهم في نفس الوقت مصدر لكسب حياة كريمة من أموال الداخل المصري وليس من أموال الإعارة الخارجية. ومن ثم غرقوا حتى الآذان في الاشتغال بمهنة التدريس وليس البحث العلمي الجغرافي.
انظر كيف بدأنا المقال بالكنيسة الأوروبية التي كرست تعليم الجغرافيا وانتهينا بالإعارة وبرامج الساعات المعتمدة التي ساهمت جميعها في "نزع الدسم" وغياب أية مفاهيم أيديولوجية، لا دينية ولا قومية ولا استعمارية ولا وطنية.
في كلمتين:
لا تنتظر في العقود الحالية ظهور جغرافيين كبار لديهم مشروع قومي أو إسلامي أو وطني أو توسعي.
هل انتهى المقال بهذه النتيجة الكئيبة المحبطة؟
كل النهايات الكئيبة المحبطة يمكن ان نقرأها بمفهوم آخر: الزمن يصنع الرجال، ويصنع النظريات، والرجال لا يهبطون من السماء ولا تنشق عنهم الأرض فجأة.
------------
من اهم مؤلفات د عاطف معتمد
- ما بعد الشيوعية..الدين والثورة والقومية في زمن التحولات. دار نهضة مصر. القاهرة 2007
- الصراع الروسي الشيشاني في ضوء الرؤية الجغرافية لنزاعات القوقاز .مطبعة الحريري. القاهرة 2004.
- الصراع العربي الاسرائيلي وآفاق اقامة الدولة الفلسطينية .دار غريب. القاهرة (مؤلف مشارك) 2003
- الشيعة في المشرق الإسلامي . دار نهضة مصر . القاهرة 2008 .
- مصر والمصريون
- الصراع الروسي الشيشاني في ضوء الرؤية الجغرافية لنزاعات القوقاز .مطبعة الحريري. القاهرة 2004.
- الصراع العربي الاسرائيلي وآفاق اقامة الدولة الفلسطينية .دار غريب. القاهرة (مؤلف مشارك) 2003
- الشيعة في المشرق الإسلامي . دار نهضة مصر . القاهرة 2008 .
- مصر والمصريون
Comments