جمال محمد تقي*
خمسة اعوام انقضت ولم تتوقف بنزفها العام والشامل للدماء والنفط والدولار، للحاضر والمستقبل، عراقيا وامريكيا على حد سواء، مع فارق اساسى وهو ان العراق وشعبه يدفعان فاتورة حساب ليس لهم فيه مصلحة.
والفاتورة تطول وتطول حتى تصل درجة الابادة، ولان الانسان هو مصدر الثروة وهو بذلك اثمن راسمال، فان مقتل اكثر من مليون ونصف المليون عراقي، يشكل جريمة ترتفع بوقعها ونتائجها لجرائم النازية. انها جريمة القرن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
حرب العراق كانت الخطوة الاولى فى طريق المئة عام؛ طريق "القرن الامريكي" المزفت بالدماء، ولعبة الصدمات والازمات المصطنعة التى تدر وضعا استثنائيا تستطيع من خلاله طغم المال الصناعى وتحديدا فى مجالات الصناعة الحربية والنفطية لتمرير مصالحها الجديدة، دون مقدمات تقليدية.
تحول الدولار الى ورقة ضغط متعددة الاغراض، لامتصاص فورة الاسعار الدولارية لبراميل الذهب الاسود، وزيادة اسعار البضائع والخدمات، كل هذا يؤكد حقيقة الدور المركزى الامريكى فى تجريب كل الاساليب التى تربط اقتصاديات العالم وقوته وفعاليته وبالتالى نموه بعجلة النفوذ الأمريكي، مهما كان الثمن، حتى لو وصل الى مقتل اعداد تفوق اعداد ضحايا الحربين العالميتين الاولى والثانية. فان تدفع البشرية 100 مليون من البشر قرابينا على مذبح آلهة ألاحتكار المنفلت امر مستحق فى نظر تلك الطغم الباغية.
ديك النفط الامريكى ـ ديك شينى ـ صاح بأعلى صوته بزيارته الاخيرة القصيرة جدا والمكتنزة جدا لبغداد: "مهما كان وضع الامن فى العراق، فاننا باقون".
جون ماكين مرشح الرئاسة الجمهورى زار بغداد وطمأن القلقين من اعضاء الواجهات العراقية المقيمة فى المنطقة الخضراء قائلا: إذا تطلب الامر، فاننا باقون لمائة عام. لا تقلقوا.
فى اربيل كرر العبارة مع التعهد بدعم التوجهات النفطية المشروعة للفدراليين وكل طموحاتهم الدستورية.
خرائط النفط وآلة الحرب الامريكية
من اندونيسيا وحتى فينزولا، مرورا بجمهوريات بحر قزوين وايران الى العراق ودول الخليج العربى واليمن والسودان والصومال والجزائر حتى تطوان، يرسم ساسة النفط والسلاح فى دوائر صنع القرار الامريكى خط سير وانتشار قواهم الضاربة عسكريا ومخابراتيا واقتصاديا ودبلوماسيا واعلاميا، مستخدمين الادوات التقليدية وغير التقليدية، وبطريقة اكثر شمولا واختراقا من طرق الحرب الباردة، بحيث تنسجم مع متغيرات زوال القطب المنافس ـ الدب الروسى ـ الذى انكفأ على ذاته. وهم حولوا مجلس الامن الى واحدة من تلك الادوات، ناهيك عن منظمات الطاقة الذرية، والبنك الدولى والتجارة العالمية، والنقد الدولي، والحلف الاطلسى الذى توسع ليشمل معظم بلدان اوروبا شرقا وغربا اضافة الى انتشاره الى خارجها بمهمات نوعية جديدة، ولاول مرة خارج اوروبا كما هو الحال فى افغانستان.
كان حل "حلف وارسو" قد جعل المتفائلين فى انبثاق عالم خال من الحروب يتوقعون انتهاءً منطقيا لوجود الحلف الاطلسى لكن واقع الحال اثبت عكس ذلك، اثبت انه يؤسس لسيادة الحلف الاطلسى عالميا تحت الزعامة الامريكية وبلا منازع، اثبت ان هؤلاء المتفائلون كانوا حسنى النية اكثر مما يجب، حتى ان الامر صار وكأنه اعلان تتويج مطلق للزعامة الامبراطورية الامريكية على العالم ومستقبله.
المصالح الامبراطورية الامريكية ليست فقط لا تغيب الشمس عنها وانما لا تسلم من طموحها حتى الشمس ذاتها، لا يسلم منها الفضاء والمناخ ومركز الارض وقيعان البحار، لا يسلم من عبثها حتى الاجنة بالارحام بل حتى النسل كله. انها تحاكم الماضى باثر رجعى لصالح حاضرها ومستقبلها الذى تريده مطلقا.
والنفط هو واحد من اهم اسلحتها لمواصلة مسيرتها التى تريدها متجددة لقرون يكون فيها القرن الاول نفطى بامتياز.
الف كذبة وكذبة
احصى مركز "بابليك انتجريتي" الامريكى غير الحكومى 935 كذبة لبوش واقطاب ادارته منذ توليه السلطة حتى اندلاع حرب غزو العراق واحتلاله، وكانت الدراسة موثقة بالبيانات والصور وتركزت على خطب بوش وديك شينى وكولن باول ودونالد رامسفيلد وكوندليزا رايس، وعلى بيانات البيت الابيض ووزارة الخارجية، وقد خلصت الى ان الكذب كله كان لخداع الرأى العام الامريكى نفسه، أى انه موجه للداخل رغم ان أغلبه يتعلق بشؤون خارجية، الرأى العام العالمى لم يكن يثق اصلا بما يروجه البيت الابيض من اكاذيب، ولم يكن مهما لدى الادارة الحالية غير خداع الداخل الامريكي. فالداخل الامريكى هو العامل الحاسم فى استبقاء نهج الادارة وتبنيه من قبل الادارات اللاحقة، هناك كذب بمسائل داخلية كما حصل فى الاصل فى موضوعة وصول بوش لكرسى الرئاسة الاولى والمتعلقة تحديدا باصوات بوش واصوات الغور، وفى خدمة بوش العسكرية فى فيتنام. وهكذا لتتوالى الاكاذيب اثناء وبعد احداث 11 سبتمبر، ثم الكذب بشأن ترجيح ضرب العراق أم افغانستان اولا، الى اكاذيب سلاح الدمار الشامل العراقى وعلاقة نظامه بالقاعدة الى تهديد العراق على الامن القومى الامريكي.
بعد 9 ابريل-نيسان 2003 وحتى 9 ابريل 2008 صار اكثر من ممكن ان يحصى اى متابع دقيق اكثر من 66 كذبة جديدة لبوش وادارته ليتجاوز بها الرقم الكلى لاكاذيب بوش وادارته غير البيضاء الألف كذبة وكذبة.
الاتفاقيات الأمنية والنفطية
بعد الحصار والغزو والاحتلال والانتداب جاء دور الوصاية. والوصاية هنا مباشرة وغير مباشرة. ففى الاولى ترسمها الاتفاقيه الامنية بعيدة المدى بين العراق وامريكا، بين الطرف المحتل والطرف الخاضع للاحتلال، والتى تحتوى بدورها على شقين، الأول عسكرى فيه ما فيه من بنود تدوس على السيادة العراقية مثل تمتع القوات الامريكية الموجودة على الارض العراقية بحصانة قانونية وامنية، واحقية القوات الامريكية للتدخل السريع لحماية الدولة العراقية من التمردات الداخلية او اى عدوان خارجي، وليس للدولة العراقية اى سلطة على القوات الامريكية وقواعدها وحركتها خارج اطار التنسيق الذى تؤطره الاتفاقية لتجنب اى عارض للتصادم بين الارادتين، تحمل الحكومة العراقية نصيب من الاعباء المالية للقوات الامريكية.
اما الشق المدنى ففيه بنود ترجح تفضيل التعامل الاستثمارى والعلمى والتجارى مع امريكا وخاصة فى مجال النفط والانشاء والتدريب.
الثانية هى مكملة عمليا لاهداف الاولى. فقانون النفط والغاز الجديد الذى تعد له العدة لاخراجه وكأنه قانون صادر بارادة عراقية صرفة لشرعنته وجعله اطارا للعمل، هو الذى سيمهد لخصخصة كل عمليات النفط فى العراق من التنقيب الى الكشف والاستخراج والتصدير والتكرير. وبما ان الشق المدنى من الاتفاقية الامنية قد اعطى افضلية للمستثمر الامريكى فان النفط المخصخص سيكون مخصوصا بالشركات الامريكية المحمية بوجودها وعملها وتوسعاتها ومطامعها بالقوة العسكرية النافذة على الارض والسماء والمياه الاقليمية العراقية.
يشاع هذه الايام بان الاتفاقية هى من النوع التنفيذى الذى لا يتطلب موافقة الكونغرس عليه كما الحال بـ 75 اتفاقية امنية امريكية مع بلدان اخرى ولم تكن بحاجة للتمرير عبر الكونغرس، وبالتالى واعتمادا على مبدأ التناظر فان الاتفاقية لا تحتاج عراقيا غير موفقة الحكومة العراقية عليها اى لا تستدعى تمريرها عبر البرلمان العراقى ايضا، لكن المطلعين على خفايا الامور يؤكدون ان الاتفاقية المعدة للعراق تتضمن بنودا لم تحتويها اى اتفاقية من الاتفاقيات الـ75، فلا يحق للقوات الامريكية الموجودة فى المانيا او اليابان او كوريا الجنوبية او تركيا او البحرين او قطر التدخل فى الشأن الداخلي، بأى حال من الاحوال، وتحكم وجودها ضوابط مرعية قانونية وسيادية. فعلى اساس القانون السارى يمكن ان يُلاحق اى جرم يرتكبه اى من عناصر هذه القوات فى البلدان المستضيفة، وان استئجار القواعد والتسهيلات العسكرية شيء، وشرعنة التواجد العسكرى غير الشرعى بين طرفين غير متكافئين شيء آخر، هذا ناهيك عن التفسير التلقائى لفقرة التصدى لاى عدوان خارجى وخلفياته المرتبطة بايران. فاذا راجعنا الموقف التركى برفض استخدام القاعدة الجوية الامريكية لضرب العراق مثالا، فهل سيكون باستطاعة الحكومة العراقية منع امريكا من استخدام تواجدها العسكرى فى العراق لضرب ايران؟
ان الادارة الامريكية وممثليها فى بغداد يعدون العدة لانجاز ما يلزم من تسوية للوضع السياسى والامنى المرتبك فى العراق من خلال تمكين القوى التابعة تماما لمشروعها من زمام الامور ولاجل غير مسمى دون تقيدها بسيادة كانت قد ادعت انها ارجعتها، او بما وضعته هى من دستور ومن شعارات حرية العراق. انهم يلعبون لعبا مزدوجا ففى ذات الوقت الذى يحاولون تثبيت حكم معاونيهم، يؤهلون بدائل لهم لاجهاض اى نزعة مخالفة للخروج على بيت الطاعة الامريكي. شيعيا يلوحون بورقة عادل عبد المهدى اذا لم يطعهم نورى المالكي. وسنيا يلوحون بالصحوات لطارق الهاشمى وهكذا، الى جانب سعيهم الاساسى لتفكيك قوى الممانعة والمقاومة والتفرد بها وتصفيتها بترغيبها تارة واستدراجها للحكم، وبالبطش والعزل تارة اخرى. وعلى هذا المنوال يسعى الاحتلال لاجتثاث التيار الصدري، وهو الممثل بثلاثين نائب فى البرلمان الذى انتجوه. وعلى هذا الطريق ايضا تجرى ملاحقة فصائل المقاومة العراقية المسلحة ومحاولة ترويضها. لكن الدلائل تجمع على ان المقاومة فى اتساع، وان هناك فئات جديدة اخذت تنحو نحوها لا سيما وان الادارة الامريكية قد ازف وقت رحيلها وهذا ما يشجع المقاومين على انزال اوجع الضربات بقوات الاحتلال ومعاونيهم لتوسيع رقعة المطالبة الشعبية الامريكية بسحب القوات من العراق وباسرع وقت ممكن.
الانسحاب الاجبارى ممكن
مستقبل العراق كتاب مفتوح قابل لتعدد القراءات، لكن اقرب تلك القراءات للتطابق مع فحوى مضامين سطوره وما بينها من مسلمات، هى قراءة أعين أهله الرافضين لما يجرى لبلادهم والذين لا يجدون فى المستقبل الا فجرا جديدا خارج دائرة النفوذ الامريكى وداخل عراق حر سيد قوى متوازن مع نفسه، عراق خال من سراى المنطقة الخضراء ومن شركات القتل الخاص ـ بلاك ووتر واخواتها ـ خال من التقسيم العنصرى والطائفي، خال من كل اشكال المهانة لآدمية الانسان العراقي.
سيضطر بوش لسحب زيادته التى أضافها الى قواته المقاتلة فى العراق حتى نهاية يوليو-تموز والمقدرة بحوالى 20 الف مقاتل نتيجة لتزايد الضغوط الداخلية عليه، وبعدها سيتناغم مع تطور الاوضاع ومع تطبيقات الاتفاقية الامنية مع الحكومة العراقية ومع ما ترشحه المنافسة بين الحزبين على الترشيح لمنصب الرئيس الجديد، وقد يدفعه التناغم هذا الى تورط جديد او توريط ملتوى لخلفه بما كان يسعى لتحقيقه من خطوات. ومع هذا فان امكانية مراجعة بوش ومن يخلفه لهذه التناغمات والعزوف عنها وتجنب اعادة انتاجها مازالت شاخصة بل هى اكثر من ممكنة. فالذى جعل بوش بهذا التردى فى شعبيته والذى اجبره على التخلص من اقرب مقربيه من امثال رامسفيلد والذى جعله اكذب رئيس عرفته امريكا والذى اجبره على تغيير تكتيكاته، ثم الذى جعله وحزبه يدفعا ثمنا باهضا فى الانتخابات النيابية ـ الكونغرس ـ حيث خسر وحزبه الجمهورى خسارة موجعة، إن الذى جعله بهذا التردى قادر حتما على فعل الكثير والمزيد. انه العراق بمقاومته المنظمة وغير المنظمة، المسلحة وغير المسلحة، بمقاومته السلبية والايجابية، قادرعلى تركيعه وجعله يتعجل الفرار. وبكل بساطة بزيادة معدلات القتل اليومى لجنوده وبايقاع اكبر الخسائر بمعسكراته ومعداته فى العراق، بافشال عمليته السياسية والوقوف الحازم بوجه مشاريع الوصاية ونهب النفط الذى تريده امريكا وقفا لها.
حتى الان التكلفة الدولارية للحملة وصلت لقرابة 3 ترليون، اما التكلفة البشرية وهى الاهم قرابة 5000 قتيل من القوات الامريكية الرسمية اى دون حساب اعداد قتلى القطاع الخاص ـ شركات الحماية الخاصة ـ والاهم من اعداد القتلى هو اعداد الجرحى والمصابين والمعوقين الذى وصل بحدود 40 الف حالة، ان التكلفة الباهضة لتأهيل هؤلاء هو عبء اقتصادى واجتماعى ونفسى مرهق يجعل منهم همّا ثقيل على كاهل وزارة الدفاع. انهم انفسهم شهود على بشاعة تلك الحرب وعلى اكاذيب من دفعهم اليها دفعا. هؤلاء الان مصدر مهم من مصادر معارضة الحرب فى العراق.
هناك 100 الف جندى عاد الى امريكا من العراق ضمن برنامج استبدال القوات، بامراض نفسية مختلفة، وهناك بينهم 10 الاف محاولة انتحار.
ومع هؤلاء، فان أمبراطورية الجشع وسفك الدماء ستجد نفسها، انها لا تفعل، باستمرار الإحتلال، سوى انها تكرر محاولات الإنتحار. وكل ما نحتاجه هو ان تنجح فى واحدة منها.
* كاتب عراقى مقيم فى السويد
العرب اون لاين
خمسة اعوام انقضت ولم تتوقف بنزفها العام والشامل للدماء والنفط والدولار، للحاضر والمستقبل، عراقيا وامريكيا على حد سواء، مع فارق اساسى وهو ان العراق وشعبه يدفعان فاتورة حساب ليس لهم فيه مصلحة.
والفاتورة تطول وتطول حتى تصل درجة الابادة، ولان الانسان هو مصدر الثروة وهو بذلك اثمن راسمال، فان مقتل اكثر من مليون ونصف المليون عراقي، يشكل جريمة ترتفع بوقعها ونتائجها لجرائم النازية. انها جريمة القرن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
حرب العراق كانت الخطوة الاولى فى طريق المئة عام؛ طريق "القرن الامريكي" المزفت بالدماء، ولعبة الصدمات والازمات المصطنعة التى تدر وضعا استثنائيا تستطيع من خلاله طغم المال الصناعى وتحديدا فى مجالات الصناعة الحربية والنفطية لتمرير مصالحها الجديدة، دون مقدمات تقليدية.
تحول الدولار الى ورقة ضغط متعددة الاغراض، لامتصاص فورة الاسعار الدولارية لبراميل الذهب الاسود، وزيادة اسعار البضائع والخدمات، كل هذا يؤكد حقيقة الدور المركزى الامريكى فى تجريب كل الاساليب التى تربط اقتصاديات العالم وقوته وفعاليته وبالتالى نموه بعجلة النفوذ الأمريكي، مهما كان الثمن، حتى لو وصل الى مقتل اعداد تفوق اعداد ضحايا الحربين العالميتين الاولى والثانية. فان تدفع البشرية 100 مليون من البشر قرابينا على مذبح آلهة ألاحتكار المنفلت امر مستحق فى نظر تلك الطغم الباغية.
ديك النفط الامريكى ـ ديك شينى ـ صاح بأعلى صوته بزيارته الاخيرة القصيرة جدا والمكتنزة جدا لبغداد: "مهما كان وضع الامن فى العراق، فاننا باقون".
جون ماكين مرشح الرئاسة الجمهورى زار بغداد وطمأن القلقين من اعضاء الواجهات العراقية المقيمة فى المنطقة الخضراء قائلا: إذا تطلب الامر، فاننا باقون لمائة عام. لا تقلقوا.
فى اربيل كرر العبارة مع التعهد بدعم التوجهات النفطية المشروعة للفدراليين وكل طموحاتهم الدستورية.
خرائط النفط وآلة الحرب الامريكية
من اندونيسيا وحتى فينزولا، مرورا بجمهوريات بحر قزوين وايران الى العراق ودول الخليج العربى واليمن والسودان والصومال والجزائر حتى تطوان، يرسم ساسة النفط والسلاح فى دوائر صنع القرار الامريكى خط سير وانتشار قواهم الضاربة عسكريا ومخابراتيا واقتصاديا ودبلوماسيا واعلاميا، مستخدمين الادوات التقليدية وغير التقليدية، وبطريقة اكثر شمولا واختراقا من طرق الحرب الباردة، بحيث تنسجم مع متغيرات زوال القطب المنافس ـ الدب الروسى ـ الذى انكفأ على ذاته. وهم حولوا مجلس الامن الى واحدة من تلك الادوات، ناهيك عن منظمات الطاقة الذرية، والبنك الدولى والتجارة العالمية، والنقد الدولي، والحلف الاطلسى الذى توسع ليشمل معظم بلدان اوروبا شرقا وغربا اضافة الى انتشاره الى خارجها بمهمات نوعية جديدة، ولاول مرة خارج اوروبا كما هو الحال فى افغانستان.
كان حل "حلف وارسو" قد جعل المتفائلين فى انبثاق عالم خال من الحروب يتوقعون انتهاءً منطقيا لوجود الحلف الاطلسى لكن واقع الحال اثبت عكس ذلك، اثبت انه يؤسس لسيادة الحلف الاطلسى عالميا تحت الزعامة الامريكية وبلا منازع، اثبت ان هؤلاء المتفائلون كانوا حسنى النية اكثر مما يجب، حتى ان الامر صار وكأنه اعلان تتويج مطلق للزعامة الامبراطورية الامريكية على العالم ومستقبله.
المصالح الامبراطورية الامريكية ليست فقط لا تغيب الشمس عنها وانما لا تسلم من طموحها حتى الشمس ذاتها، لا يسلم منها الفضاء والمناخ ومركز الارض وقيعان البحار، لا يسلم من عبثها حتى الاجنة بالارحام بل حتى النسل كله. انها تحاكم الماضى باثر رجعى لصالح حاضرها ومستقبلها الذى تريده مطلقا.
والنفط هو واحد من اهم اسلحتها لمواصلة مسيرتها التى تريدها متجددة لقرون يكون فيها القرن الاول نفطى بامتياز.
الف كذبة وكذبة
احصى مركز "بابليك انتجريتي" الامريكى غير الحكومى 935 كذبة لبوش واقطاب ادارته منذ توليه السلطة حتى اندلاع حرب غزو العراق واحتلاله، وكانت الدراسة موثقة بالبيانات والصور وتركزت على خطب بوش وديك شينى وكولن باول ودونالد رامسفيلد وكوندليزا رايس، وعلى بيانات البيت الابيض ووزارة الخارجية، وقد خلصت الى ان الكذب كله كان لخداع الرأى العام الامريكى نفسه، أى انه موجه للداخل رغم ان أغلبه يتعلق بشؤون خارجية، الرأى العام العالمى لم يكن يثق اصلا بما يروجه البيت الابيض من اكاذيب، ولم يكن مهما لدى الادارة الحالية غير خداع الداخل الامريكي. فالداخل الامريكى هو العامل الحاسم فى استبقاء نهج الادارة وتبنيه من قبل الادارات اللاحقة، هناك كذب بمسائل داخلية كما حصل فى الاصل فى موضوعة وصول بوش لكرسى الرئاسة الاولى والمتعلقة تحديدا باصوات بوش واصوات الغور، وفى خدمة بوش العسكرية فى فيتنام. وهكذا لتتوالى الاكاذيب اثناء وبعد احداث 11 سبتمبر، ثم الكذب بشأن ترجيح ضرب العراق أم افغانستان اولا، الى اكاذيب سلاح الدمار الشامل العراقى وعلاقة نظامه بالقاعدة الى تهديد العراق على الامن القومى الامريكي.
بعد 9 ابريل-نيسان 2003 وحتى 9 ابريل 2008 صار اكثر من ممكن ان يحصى اى متابع دقيق اكثر من 66 كذبة جديدة لبوش وادارته ليتجاوز بها الرقم الكلى لاكاذيب بوش وادارته غير البيضاء الألف كذبة وكذبة.
الاتفاقيات الأمنية والنفطية
بعد الحصار والغزو والاحتلال والانتداب جاء دور الوصاية. والوصاية هنا مباشرة وغير مباشرة. ففى الاولى ترسمها الاتفاقيه الامنية بعيدة المدى بين العراق وامريكا، بين الطرف المحتل والطرف الخاضع للاحتلال، والتى تحتوى بدورها على شقين، الأول عسكرى فيه ما فيه من بنود تدوس على السيادة العراقية مثل تمتع القوات الامريكية الموجودة على الارض العراقية بحصانة قانونية وامنية، واحقية القوات الامريكية للتدخل السريع لحماية الدولة العراقية من التمردات الداخلية او اى عدوان خارجي، وليس للدولة العراقية اى سلطة على القوات الامريكية وقواعدها وحركتها خارج اطار التنسيق الذى تؤطره الاتفاقية لتجنب اى عارض للتصادم بين الارادتين، تحمل الحكومة العراقية نصيب من الاعباء المالية للقوات الامريكية.
اما الشق المدنى ففيه بنود ترجح تفضيل التعامل الاستثمارى والعلمى والتجارى مع امريكا وخاصة فى مجال النفط والانشاء والتدريب.
الثانية هى مكملة عمليا لاهداف الاولى. فقانون النفط والغاز الجديد الذى تعد له العدة لاخراجه وكأنه قانون صادر بارادة عراقية صرفة لشرعنته وجعله اطارا للعمل، هو الذى سيمهد لخصخصة كل عمليات النفط فى العراق من التنقيب الى الكشف والاستخراج والتصدير والتكرير. وبما ان الشق المدنى من الاتفاقية الامنية قد اعطى افضلية للمستثمر الامريكى فان النفط المخصخص سيكون مخصوصا بالشركات الامريكية المحمية بوجودها وعملها وتوسعاتها ومطامعها بالقوة العسكرية النافذة على الارض والسماء والمياه الاقليمية العراقية.
يشاع هذه الايام بان الاتفاقية هى من النوع التنفيذى الذى لا يتطلب موافقة الكونغرس عليه كما الحال بـ 75 اتفاقية امنية امريكية مع بلدان اخرى ولم تكن بحاجة للتمرير عبر الكونغرس، وبالتالى واعتمادا على مبدأ التناظر فان الاتفاقية لا تحتاج عراقيا غير موفقة الحكومة العراقية عليها اى لا تستدعى تمريرها عبر البرلمان العراقى ايضا، لكن المطلعين على خفايا الامور يؤكدون ان الاتفاقية المعدة للعراق تتضمن بنودا لم تحتويها اى اتفاقية من الاتفاقيات الـ75، فلا يحق للقوات الامريكية الموجودة فى المانيا او اليابان او كوريا الجنوبية او تركيا او البحرين او قطر التدخل فى الشأن الداخلي، بأى حال من الاحوال، وتحكم وجودها ضوابط مرعية قانونية وسيادية. فعلى اساس القانون السارى يمكن ان يُلاحق اى جرم يرتكبه اى من عناصر هذه القوات فى البلدان المستضيفة، وان استئجار القواعد والتسهيلات العسكرية شيء، وشرعنة التواجد العسكرى غير الشرعى بين طرفين غير متكافئين شيء آخر، هذا ناهيك عن التفسير التلقائى لفقرة التصدى لاى عدوان خارجى وخلفياته المرتبطة بايران. فاذا راجعنا الموقف التركى برفض استخدام القاعدة الجوية الامريكية لضرب العراق مثالا، فهل سيكون باستطاعة الحكومة العراقية منع امريكا من استخدام تواجدها العسكرى فى العراق لضرب ايران؟
ان الادارة الامريكية وممثليها فى بغداد يعدون العدة لانجاز ما يلزم من تسوية للوضع السياسى والامنى المرتبك فى العراق من خلال تمكين القوى التابعة تماما لمشروعها من زمام الامور ولاجل غير مسمى دون تقيدها بسيادة كانت قد ادعت انها ارجعتها، او بما وضعته هى من دستور ومن شعارات حرية العراق. انهم يلعبون لعبا مزدوجا ففى ذات الوقت الذى يحاولون تثبيت حكم معاونيهم، يؤهلون بدائل لهم لاجهاض اى نزعة مخالفة للخروج على بيت الطاعة الامريكي. شيعيا يلوحون بورقة عادل عبد المهدى اذا لم يطعهم نورى المالكي. وسنيا يلوحون بالصحوات لطارق الهاشمى وهكذا، الى جانب سعيهم الاساسى لتفكيك قوى الممانعة والمقاومة والتفرد بها وتصفيتها بترغيبها تارة واستدراجها للحكم، وبالبطش والعزل تارة اخرى. وعلى هذا المنوال يسعى الاحتلال لاجتثاث التيار الصدري، وهو الممثل بثلاثين نائب فى البرلمان الذى انتجوه. وعلى هذا الطريق ايضا تجرى ملاحقة فصائل المقاومة العراقية المسلحة ومحاولة ترويضها. لكن الدلائل تجمع على ان المقاومة فى اتساع، وان هناك فئات جديدة اخذت تنحو نحوها لا سيما وان الادارة الامريكية قد ازف وقت رحيلها وهذا ما يشجع المقاومين على انزال اوجع الضربات بقوات الاحتلال ومعاونيهم لتوسيع رقعة المطالبة الشعبية الامريكية بسحب القوات من العراق وباسرع وقت ممكن.
الانسحاب الاجبارى ممكن
مستقبل العراق كتاب مفتوح قابل لتعدد القراءات، لكن اقرب تلك القراءات للتطابق مع فحوى مضامين سطوره وما بينها من مسلمات، هى قراءة أعين أهله الرافضين لما يجرى لبلادهم والذين لا يجدون فى المستقبل الا فجرا جديدا خارج دائرة النفوذ الامريكى وداخل عراق حر سيد قوى متوازن مع نفسه، عراق خال من سراى المنطقة الخضراء ومن شركات القتل الخاص ـ بلاك ووتر واخواتها ـ خال من التقسيم العنصرى والطائفي، خال من كل اشكال المهانة لآدمية الانسان العراقي.
سيضطر بوش لسحب زيادته التى أضافها الى قواته المقاتلة فى العراق حتى نهاية يوليو-تموز والمقدرة بحوالى 20 الف مقاتل نتيجة لتزايد الضغوط الداخلية عليه، وبعدها سيتناغم مع تطور الاوضاع ومع تطبيقات الاتفاقية الامنية مع الحكومة العراقية ومع ما ترشحه المنافسة بين الحزبين على الترشيح لمنصب الرئيس الجديد، وقد يدفعه التناغم هذا الى تورط جديد او توريط ملتوى لخلفه بما كان يسعى لتحقيقه من خطوات. ومع هذا فان امكانية مراجعة بوش ومن يخلفه لهذه التناغمات والعزوف عنها وتجنب اعادة انتاجها مازالت شاخصة بل هى اكثر من ممكنة. فالذى جعل بوش بهذا التردى فى شعبيته والذى اجبره على التخلص من اقرب مقربيه من امثال رامسفيلد والذى جعله اكذب رئيس عرفته امريكا والذى اجبره على تغيير تكتيكاته، ثم الذى جعله وحزبه يدفعا ثمنا باهضا فى الانتخابات النيابية ـ الكونغرس ـ حيث خسر وحزبه الجمهورى خسارة موجعة، إن الذى جعله بهذا التردى قادر حتما على فعل الكثير والمزيد. انه العراق بمقاومته المنظمة وغير المنظمة، المسلحة وغير المسلحة، بمقاومته السلبية والايجابية، قادرعلى تركيعه وجعله يتعجل الفرار. وبكل بساطة بزيادة معدلات القتل اليومى لجنوده وبايقاع اكبر الخسائر بمعسكراته ومعداته فى العراق، بافشال عمليته السياسية والوقوف الحازم بوجه مشاريع الوصاية ونهب النفط الذى تريده امريكا وقفا لها.
حتى الان التكلفة الدولارية للحملة وصلت لقرابة 3 ترليون، اما التكلفة البشرية وهى الاهم قرابة 5000 قتيل من القوات الامريكية الرسمية اى دون حساب اعداد قتلى القطاع الخاص ـ شركات الحماية الخاصة ـ والاهم من اعداد القتلى هو اعداد الجرحى والمصابين والمعوقين الذى وصل بحدود 40 الف حالة، ان التكلفة الباهضة لتأهيل هؤلاء هو عبء اقتصادى واجتماعى ونفسى مرهق يجعل منهم همّا ثقيل على كاهل وزارة الدفاع. انهم انفسهم شهود على بشاعة تلك الحرب وعلى اكاذيب من دفعهم اليها دفعا. هؤلاء الان مصدر مهم من مصادر معارضة الحرب فى العراق.
هناك 100 الف جندى عاد الى امريكا من العراق ضمن برنامج استبدال القوات، بامراض نفسية مختلفة، وهناك بينهم 10 الاف محاولة انتحار.
ومع هؤلاء، فان أمبراطورية الجشع وسفك الدماء ستجد نفسها، انها لا تفعل، باستمرار الإحتلال، سوى انها تكرر محاولات الإنتحار. وكل ما نحتاجه هو ان تنجح فى واحدة منها.
* كاتب عراقى مقيم فى السويد
العرب اون لاين
Comments