" سطر من كتاب العزة "
بقلم : المهندس/ يحيى حسين عبدالهادي
مجله الوعي العربي 27 نوفمبر 2017
اقرأ ايضا ما بين غزة و الشيخ جراح
كُنَّا طلبةً فى الكلية الفنية العسكرية فى منتصف السبعينات .. جَنَح الدكتور الخارجى الُمنتدب عن موضوع المحاضرة وحَكَى كيف حَرَمَ عبدُ الناصر الشعبَ المصرى من نعمة أن يشرب البيبسى كولا بمذاقها الأصلى ككل شعوب الأرض .. قال إن المصنع المصرى الحكومى كان يدفع للشركة الأمريكية الأُم مبلغاً سنوياً مقابل الاسم التجارى والحصول على الخلطة السرية (يسَّمُونَها المُرَّكَز) دون كشف أسرارها ..
وفى أحد الأعوام طلبت الشركةُ الأمريكية زيادة الرسم بخمسين ألف دولار فقط ، فرفض عبد الناصر أن تدفع مصر دولاراً واحداً، لا مِن المبلغ الأصلى ولا الزيادة المطلوبة، وحُرِمت مصرُ من يومها من نعمة البيبسى كولا .. وصَبَّ الدكتور بعض اللعنات على صاحب هذا القرار .. كان ذلك فى بدايات حملة الهجوم على عبد الناصر بمباركةٍ كاملةٍ من الدولة .
لم تكن الطبيعة العسكرية للكلية وفقر المعلومات عن الموضوع تسمح للطلبة الصغار أن يجادلوا المحاضر فى موضوعٍ خارج التخصص العلمى ..المفارقة أن الدكتور كان يلعن عبد الناصر فى واحدةٍ من القلاع العلمية الحقيقية التى بناها عبد الناصر.
نسيتُ هذه القصة المُجتَزَأَة فى سياق الهجوم على جمال عبد الناصر بعد أن تَكَّسَرت النصالُ على النصال وتَعَّدَى الهجومُ مرحلة البيبسى إلى إنجازاته الكبرى كتأميم القناة (التى كان الغرب الوديع سيعيدها لنا بعد ثلاثة عشر عاماً دون مشاكل وفوقها عدة قُبُلات)، والسد العالى (الذى أَدَّى إلى انخفاض حصيلة صيد السردين)، وحركة التصنيع (التى ابتُدِعت خصيصاً من أجل نشر الرذيلة باشتراك العاملات فى الورديات المسائية).
بعد ذلك بحوالى عشرين عاماً، استمعت إلى تكملة القصة .. أثناء مناقشة دراسةٍ مقدمةٍ من أحد العاملين بشركة الأهرام للمشروبات (قبل خصخصتها) لتصنيع مشروبٍ جديد خالٍ من الكحول (فيروز وبيريل)، روى المهندس/ عادل الشهاوى رئيس الشركة القابضة للصناعات الغذائية وأحد أعضاء لجنة المناقشة القصة التالية (كانت شركة الكولا المصرية تسدد للشركة الأمريكية الأم مبلغاً سنوياً مقابل الاسم التجارى والحصول على الخلطة السرية ..
وفى بداية الستينات فوجئنا بالشركة الأمريكية تطلب زيادة المبلغ بمقدار 50 ألف دولار .. كانت مصر تحت الحصار الاقتصادى وتفرض قيوداً صارمة على خروج النقد الأجنبى لاحتياجها له فى خطة التنمية .. وكان خروج هذا المبلغ يحتاج تصديقاً من أعلى مستوى .. كنتُ خريجاً حديثاً وأعمل فى سكرتارية رئيس هيئة الصناعات الغذائية عندما تم استدعاؤه ليشرح الموضوع لعبد الناصر فذهبتُ معه حاملاً الأوراق والتفاصيل ..
فإذا بى أدخل معه إلى مكتب الرئيس جمال عبد الناصر وأشهد الحوار كاملاً .. بعد أن استمع عبد الناصر للشرح ابتسم وقال لرئيس الهيئة “مش حرام نقتطع من المصريين ونعطى للأمريكان علشان شوية مَيَّة وسُكَّر بدلاً من استخدامها فى بناء مصنع؟ ألا يستطيع مهندسونا الزراعيون تصنيع مشروبٍ بديل كالذى نشربه فى بيوتنا .. برتقال .. يوسفى .. ليمون؟” .. فأجابه “يستطيعون بالتأكيد وفى أقل من ستة شهور” .. فأجاب عبد الناصر بحسمٍ “إذن أبلغ الأمريكان بأننا لن ندفع الزيادة ولا المبلغ السنوى ولن نأخذ خلطة الكولا”) ..
بعد ستة شهور ظهر فى الأسواق المصرية سيكو برتقال وسيكوأفندى وسيكو ليمون .. ثم مشروب مصرى بطعم الكولا وباسمٍ تجارى مصرى (مصر كولا) وأصبح اسم الشركة: الشركة المصرية لتعبئة الزجاجات .. تراجع الأمريكيون فوراً عن طلب الزيادة وطلبوا استمرار التعاون بالشروط القديمة .. قوبل طلبهم بالرفض.
هذه قصةٌ صغيرةٌ ضمن آلاف القصص المشابهة التى لم يهتم أحدٌ من معاصريها بتسجيلها اكتفاءً بالعلامات الكبرى كاسترداد القناة وبناء السد ودعم حركات التحرر العربية .. سطرٌ صغيرٌ فى كتاب جمال عبد الناصر .. تبعته سطورٌ أخرى فى فصل المعونة تؤكد ثبات المنهج .. بعد هذه الواقعة بعدة عقودٍ كشفت الوثائق الأمريكية عن الاستراتيجية الأمريكية فى توظيف المعونة لصالح السياسة الأمريكية بحيث تتدرج الدولة المتلقية للمعونة من مرحلة الامتنان إلى الاعتياد إلى الاعتماد إلى الإدمان إلى الإذعان ..
لم يسمح الرجل بتجاوز مرحلة الامتنان أبداً .. بعد واقعة البيبسى بعامين تكرر الأمر مع القمح باشتراط أن تُخَّفِضَ مصر صادراتها من الأرز لكى لا يُضَّار مُنتِج الأرز الأمريكى (كانت مصر سادس دولة مُصَّدِرة للأرز فى العالم) .. رفضت مصر ذلك الشرط ولو أّدَّى ذلك لإيقاف معونة القمح .. تراجعت أمريكا عن شرطها فوراً بعد أن اكتشفت أن مصر لم تنتقل لمرحلة الاعتياد والإدمان بعد ..
فى العام التالى كانت أمريكا أكثر صرامةً (لأسبابٍ إسرائيلية) واشترطت توقف برنامجى تصنيع الصواريخ والغازات السامة لكى تستمر المعونة الأمريكية .. رفض عبد الناصر بِعِزَّةٍ أى شروطٍ وأشرك الشعب معه فى مقاومة الإملاءات فى خطابه الشهير واستعاض بالقمح السوفييتى.
لقصة البيبسى فصلٌ أخير لن تجده فى كتاب العِزَّة وإنما فى كتاب الفساد والانبطاح .. فقد بيعت الشركة المصرية فى بدء برنامج الخصخصة لأصحاب النصيب بأربعين مليون دولار فقط ، فباعوها للشركة العالمية بأربعمائة مليون دولار .. لتنتهى سنوات حرمان الشعب من المذاق الأصلى للبيبسى .. هنيئاً.
لسنا هنا فى مجال مناقشة سياسات عبد الناصر، ففيها ما يستوجب النقد وفيها ما يستحق التأييد .. لكن المؤكد كما قال المؤرخ الراحل د. يونان لبيب رزق أن المصريين لم يُحِّبوا حاكماً وهو فى السلطة إلا اثنين .. عبد الناصر والنحاس .. هذا رجلٌ أَحَّبَه معظم شعبه الذى عاصره .. مصريين وعرباً .. وقد تعددت التفسيرات حول سر هذا الحب الجارف .. أعتقد أنه الصدق والإخلاص الكامل .. فالشعب إذا استشعر الصدق فى المسؤول مَنَحَه حُبَّه وتأييده بلا تحفظ ..
وقد كان عبد الناصر صادقاً لا يُمَّثِل .. صادقاً فى زُهدِه .. وصادقاً فى حُبِّه للفقراء .. وصادقاً فى إيمانه بالوحدة العربية وسعيه لها .. وصادقاً فى عدائه للاستعمار الجديد والقديم .. أصاب وأخطأ ونجح وفشل لكن بوصلته لم تتغير أبداً .. والمصرى قد يغفر لابنه الفشل ولكنه لا يغفر التقصير .. قد يغفر الهزيمة ولكنه لا يغفر التفريط ..
وهذا الابن البار لم يُقَّصِر ولم يُفَّرِط .. لذلك أَحَّبَه معظم معاصريه من المصريين والعرب وحارَبَه الاستعمار الجديد والقديم وأذيالهم فى منطقتنا .. ولا زالوا يحاربونه .. شئٌ مدهشٌ أن يكون الجسد الطاهر مُسَّجَى منذ سبعةٍ وأربعين عاماً ومع ذلك لا زال الهتاف يتردد: يعيش جمال عبد الناصر.
Comments